مفهوم – ربما سيرى مؤرخو المستقبل عندما ينظرون إلى حقبتنا الحالية التي يُطلق عليها اسم “الأنثروبوسين” أن التقنية المُمَيِزة لعصرنا الحديث هي الكرسي، وليس أجهزة الكمبيوتر، وأن لهذه القطعة من الأثاث تأثيراً كبيراً على أجسادنا.
وفي وقتٍ أصبح الجلوس يُوصف في بعض الأحيان بأنه عادةٌ سيئةٌ قد تُعتبر بمثابة “تدخينٍ من نوعٍ جديد”، بتنا الآن نعرف أن قضاء وقتٍ أطول من اللازم في الجلوس على الكراسي مضرٌ بالصحة.
فالمسألة لا تقتصر على كون الكراسي واستخدامها أمرا غير صحي، بل يمتد إلى أنه أصبح في حكم المستحيل أن يتجنبهما الإنسان الحديث، على غرار عدم قدرته تقريباً على تحاشي تلوث الهواء.
عندما بدأتُ إجراء الدراسات والأبحاث الخاصة بوضع كتابي الذي تناول الكيفية التي يُسهم بها العالم بتفاصيله من حولنا في إحداث تغييراتٍ في أجسادنا، أصبت بالدهشة والمفاجأة حينما اكتشفت كم كانت الكراسي نادرة الوجود في المعتاد قديماً.
والوضع بات مغايراً الآن، فقد صارت هذه الكراسي في كل مكان؛ في المكاتب والقطارات والمقاهي والمطاعم والحانات والسيارات وقاعات الحفلات الموسيقية ودور السينما، وعيادات الأطباء والمستشفيات وصالات المسارح والمدارس، وقاعات المحاضرات، وفي كل مكانٍ في منازلنا (أستطيع أن أضمن لك أن لديك عدداً من الكراسي في منزلك يفوق ما تظن).
من جهةٍ أخرى، إذا طُلِبَ مني تقديم تقديرٍ – ولو حتى مُتحفظٍ – لعدد الكراسي في العالم، فسأجد مشقةً في أن أهبط بهذا التخمين ليكون أقل من 8 إلى 10 لكل شخص.
وبتطبيق هذا المنطق، سيكون هناك أكثر من 60 مليار كرسي على كوكبنا.
بالتالي يتعين حتماً اعتبار الكراسي إحدى العلامات والإشارات ذات السمة العالمية التي تؤشر إلى بدء حقبتنا الجيولوجية الحالية “الأنثروبوسين”. فبوسعك العثور على الكراسي في مختلف قارات الأرض، مثلها مثل باقي علامات دخولنا إلى فترةٍ زمنيةٍ جديدة.
لوحةٌ لنابليون في قصر فرساي تعود إلى عام 1809 وتظهر الإمبراطور الفرنسي جالساً بينما ظل كل من حوله وقوفاً
ولا يوجد سببٌ واحدٌ واضح ٌيفسر الظهور المفاجئ لذاك العدد الكبير من الكراسي في العالم. فالأمر ناجمٌ عن احتشاد عوامل مثل العادات والموضات السائدة والأوضاع السياسية القائمة وعادات العمل وسلوكياته المتغيرة، فضلاً عن الرغبة الشديدة في نيل أكبر قسطٍ ممكنٍ من الراحة.
ولا يحتاج هذا العامل الأخير أي تفسيرٍ أو توضيحٍ، خاصةً أنه يدخل في إطار ثقافةٍ يعد فيها الاستمتاع بالراحة والرفاهية من أقوى الدوافع المؤثرة على المستهلك خلال عملية اتخاذه لقراراته الشرائية.
وبينما بدأت الكراسي في الظهور بأعداد أكبر قليلاً في ما يُعرف بـ”الحقبة الحديثة المبكرة” بين عاميْ 1500 و1800، يبدو أنها أصبحت أكثر انتشاراً وشعبيةً خلال الثورة الصناعية.
وبالرغم من أنه كان من اليسير نسبياً في فترة ما قبل القرن الثامن عشر اقتناء كرسي؛ لم تكن له استخداماتٌ تُذكر بالنسبة لغالبية سكان العالم في تلك الفترة. فحتى اليوم، ليس من السهل على المرء الجلوس لفتراتٍ طويلةٍ على كرسيٍ خشبيٍ صلبٍ غير مبطنٍ بشيء، كذاك النوع الذي كان سائداً في تلك الحقبة.
أما الكراسي المُنجدة فقد كانت باهظة التكاليف وقتذاك أيضاً. لكن الولع بصيحةٍ جديدةٍ تتمثل في ما أُطْلِقَ عليه اسم “ثقافة الجلوس باسترخاء”، تلك التي انطلقت من البلاط الملكي الفرنسي في القرن الثامن عشر وانتشرت في بقاعٍ أخرى في العالم، ساعدت على جعل استخدام الكرسي في هذه الفترة المبكرة من تاريخ علاقتنا به أكثر شيوعاً وانتشاراً.
وخلال القرون التي سبقت ذلك، كانت الكراسي تُربط باستمرار بمفاهيم مثل القوة والسلطة والثروة والتمتع بمكانةٍ ساميةٍ. وبلغ الأمر حد استخدامها من قبل أهل الريف بتبجيل، وكأنها التاج الذي يُوضع على رؤوس الملوك والحكام.
وإذا طالعنا “المطوية الأولى” – وهي مجموعة مسرحياتٍ للشاعر الإنجليزي الشهير وليام شكسبير نُشِرَتْ عام 1623 – سنجد إشارةً على هامش إحدى صفحات مسرحية “الملك لير”، بشأن الحركة المطلوبة من الممثلين على خشبة المسرح، توضح أن الملك سيدخل في مشهدٍ ما محمولاً على أكتاف مجموعة من الخدم، وهو جالسٌ على “كرسي”. ولا يزال اعتبار الكراسي رمزاً للمكانة السامية قائماً حتى الآن. فالمرتبة الأعلى في مجالي الأكاديمي يُطلق على صاحبها اسم “أستاذ كرسي”.
وفي اللغة الإنجليزية تُستخدم كلمة ‘chair’ – التي يمكن ترجمتها بـ”رئيس” – للإشارة إلى شخص يدير اجتماعاً ما، كما يُطلق على رئيس الشركة بالإنجليزية لقب chairman` أو chairwoma، أي رئيس أو رئيسة. فضلاً عن ذلك، ثمة حقيقةٌ مُعترفٌ بها دولياً تفيد بأن الكرسي الأفضل في أي مكتبٍ بمبنى إداري، دائماً ما يخص رئيس المكان.
ومع اكتساب استخدام الكراسي طابعا أكثر ديمقراطية (خاصة بعد الثورة الفرنسية وقوانين الإصلاح الكبرى التي سُنَتْ في بريطانيا عام 1832)، ترافق ذلك مع تغيرٍ بطيء الوتيرة في أنماط العمل لدينا. فغالبية الأعمال التي أُنجِزت في العصر الفيكتوري، كانت تُعرف بأنها إما أعمالٌ يدويةٌ أو تتم بين جدران المصانع.
لكن مع اقتراب نهاية القرن التاسع عشر، بدأ سوق العمل في التغير بدوره في ظل تسارع وتيرة الموجة الثانية من ثورةٍ تكنولوجية كان من بين الاختراعات التي ظهرت في غمار موجتها هذه ابتكاراتٌ مثل، الآلة الكاتبة وإرسال البرقيات بالتلغراف بجانب التوسع في استخدامات الكهرباء.
كما أصبحت الفئة الجديدة من أصحاب المهن، التي بات يُطلق عليها اسم “كتبة المكاتب”، الأسرع نمواً بين مختلف الفئات المهنية الأخرى خلال النصف الأخير من تلك الفترة. فقد أشار تعدادٌ للسكان أُجري عام 1851 إلى أن عدد من يؤدون أعمالاً إداريةً كان يقل قليلاً عن 44 ألف شخص. وبعد عقدين، أصبح عدد من يؤدون عملهم جلوساً في معظم الوقت أو كله نحو 91 ألفاً، أي بزيادةٍ تفوق نسبتها الضعف.
الآن أصبحت تلك الفئة الأخيرة من المهنيين تمثل الأكثرية. وعبر العقود المختلفة من القرن العشرين، نمت حولنا غابةٌ من الأنشطة الأخرى – التي تُؤدى في وضع الجلوس غالباً أو على الدوام – وذلك لتتناسب مع الطبيعة الجديدة لحياتنا في أماكن العمل.
وإذا عدنا إلى القرن التاسع عشر، سنجد أنه شهد تزايداً كبيراً ومطرداً في شعبية عادة مثل قراءة الروايات. وأعقب ذلك ظهور مزيد من أشكال الترفيه والتسلية المرتبطة بالجلوس على المقاعد والكراسي بفعل اختراع السينما والراديو والتليفزيون.
وفي الآونة الأخيرة، قادتنا أنشطةٌ مثل ممارسة ألعاب الكمبيوتر ومشاهدة البث الحي المباشر عبر الأجهزة الإلكترونية المختلفة – وغير ذلك من الأنشطة التي تحدث خلال الجلوس أمام شاشةٍ ما – إلى أن نجلس دون حراك، وكأننا في حالةٍ تأمل أو تَفَكْر. ومن هذا المنطلق صار إنسان حقبة “الأنثروبوسين” بحاجة إلى الكراسي للقيام بكل هذه “الأنشطة”.
وهكذا فإذا كانت الحياة الحديثة تقدم لنا “باقةً” من السلوكيات التي تعتمد على الجلوس أغلب الوقت، إن لم يكن كله، فإن الكراسي هي “السيقان” التي تعتمد عليها هذه الباقة. فوجودها ضروريٌ للغاية، لكي يتمكن المرء من عيش حياة حديثة يبدو الجانب الأكبر مما نزاوله فيها غير قابل للحدوث أو التصور بدونها.
وأفاد بحثٌ أجرته جمعية “بريتيش هارت فاوندايشن” المعنية بصحة القلب في بريطانيا بأننا نقضي ما يصل إلى تسع ساعاتٍ ونصف يومياً جالسين. وهذا يعني أن إنسان العصر الحديث يقضي 75 في المئة من وقته دون نشاطٍ حركيٍ، وهو ما يترتب عليه عدد من المشكلات.
فصحة أنسجتنا الصلبة والرخوة أو اللينة يمكن أن تبلغ – بفعل التأثير السلبي لانعدام الأنشطة الحركية – درجةً من السوء، يصلح معها الاستشهاد بمقولة “العضو الذي لا تستخدمه يضمر”.
فالعضلات والعظام تتأثر سلباً أو إيجاباً جراء زيادة العبء عليها أو التوقف عن استخدامها، لتصبح العظام أكثر كثافةً أو هشاشةً، وتزيد قوة العضلات أو تضعف.
ولذا فمن شأن الجلوس لوقت طويل للغاية في وضعٍ تكون فيه غالبية عضلات ظهورنا بعيدةً عن بعضها البعض، أن تكون آلام الظهر هي السبب الرئيسي للإصابة بالإعاقة على مستوى العالم، خاصةً وحالة العمود الفقري لدى كلٍ منّا ضعيفةٌ إلى هذا الحد، بسبب كل العوامل السابقة.
وبينما صار لدينا بيئةٌ نطلق عليها اسم “بيئة الأنثروبوسين”، في إشارةٍ إلى أنها تأثرت وتشكّلت بفعل ما أحدثه البشر على سطح الأرض، فقد يكون بوسعنا بالقدر ذاته تصنيف أنفسنا باعتبارنا بشر عصر “الأنثروبوسين” أيضاً.
فبينما كان البشر في العصر الحجري القديم يقضون نحبهم في معظم الأحيان خلال فترة الطفولة، وكان العنف والإصابة بجروحٍ سببيْن شائعيْن لمفارقتهم الحياة في مراحل لاحقةٍ من العمر، يختلف الوضع مع أحفادهم المعاصرين الذين يموتون غالباً بسبب اضطراباتٍ في التمثيل الغذائي، من قبيل المعاناة من داء السكري من النوع الثاني وأمراض القلب وبعض أنواع مرض السرطان. وكل ما سبق يرتبط بقوةٍ بانعدام النشاط الحركي، أي باستخدام الكراسي للجلوس عليها.
وفي عام 2012، أُجريت دراسةٌ للتعرف على تأثيرات انعدام النشاط الحركي. وقارن القائمون عليها بين بياناتٍ متعلقة بالسلوك جُمِعَتْ من 7813 امرأة، ليجدوا أنه كان لدى من كُنّ يجلسنّ منهن لعشر ساعاتٍ يومياً، قُسَيْمٌ طَرَفيٌ أقصر.
والقُسَيْم الطَرَفي أو التيلومير هو منطقةٌ موجودةٌ في خلايا الجسم البشري، يشير طولها أو قصرها إلى مدى شيخوخة هذه الخلايا. وأشارت الدراسة إلى أن العادات الحياتية التي انطوت على الجلوس لوقتٍ طويل، أدت إلى زيادة العمر البيولوجي لأولئك النسوة بواقع ثمان سنواتٍ تقريباً عن عمرهن الحقيقي.
بل إن بعض الدراسات تشير إلى أن ممارسة القليل من التمارين لا تجدي في إصلاح الأضرار الناجمة عن الجلوس لفتراتٍ طويلةٍ، وما يحدث بسببه من تأثيراتٍ سلبية.
وتشهد هذه الدراسات وغيرها على صحة حقيقةٍ مفادها أنه يتعين علينا التفكير ملياً بشأن مواصلة تكريس مزيدٍ من الوقت والجهد في علاقة الحب الحديثة نسبياً والمشبوبة بالعواطف، التي تجمع بيننا وبين الكراسي.