مفهوم – تعج صفحات الطهي على موقع فيسبوك بخبرات تتبادلها الأمهات المصريات عن أفكار لوجبات أبنائهم المدرسية. والملاحظة الأبرز من بين هذه الأفكار هي أن الوجبة المدرسية تحولت من وجبة بسيطة من أنواع الجبن والبيض والخبز والفواكه والخضروات، إلى أنواع من اللحوم والمعجنات والحلوى لم تكن لتعرف طريقها لوجبة مدرسية من قبل.
وكانت أغلب الأسر، باختلاف طبقاتها الاجتماعية، تتفق على نوعية الطعام الذي تعطيه لأطفالها في المدارس. وكانت الوجبات تتكون في الغالب من شطائر بأنواع متعددة من الجبن، والفول، والبيض، مطعمة بخضروات (الخيار والطماطم غالبا)، وربما قطعة من الفاكهة.
لكن مؤخرا تحولت هذه الوجبة إلى أنواع من الدجاج واللحوم المقلية والجاهزة، والمعجنات، والمخبوزات، وأنواع من الحلوى والسكريات.
وتحولت الوجبة المدرسية من مجرد غذاء إلى طريقة لإبراز الوجاهة الإجتماعية والتباهي بين الطلاب والأسر التي تنتمي للطبقات الاجتماعية الأوفر حظاً.
ولاحظت ساندي سعيد، أم لطفل يبلغ من العمر خمس سنوات، هذا التحول والضغط مع دخول ابنها المدرسة. “لكنني ما زلت محتفظة بنفس العناصر التقليدية التي اعتدت عليها منذ أيام دراستي”.
ورفضت ساندي الانخراط في تحضير وجبات معقدة لابنها، بل تحضّر وجبة بسيطة تتكون من أنواع الجبن والخضروات والفواكه.
“ومن حسن الحظ أن الأسر التي يأتي منها زملاء ابني يتبعون نفس الأمر ويحضّرون وجبات بسيطة لأطفالهم، وإن كنت لا أعرف محتوياتها بالتحديد”.
أنواع معقدة من الخضروات
ويتابع عبدالرحمن جاد، الذي يلتحق ابنه بالمدرسة العام الدراسي المقبل، تنافس الأسر في نوعية الوجبات المدرسية، ويقول إنه يأتي من خلفية ثقافية ترفض هذا النوع من السلوك.
ويذكر جاد أن التلاميذ في بعض قرى محافظة أسوان، حيث نشأ، كانوا يتناولون أنواعا معقدة من البقول والخضروات المطبوخة. “وكنت أرى التلاميذ في بعض المدارس يأكلون شطائر من الخبز الشمسي السميك، وبداخلها أنواع خضروات وبقول مثل البامية والملوخية والعدس. وأحيانا جبن المش وسمك الفسيخ”.
وكانت أنواع الجبن التقليدية وشرائح اللحوم المدخنة غير معتادة في هذه الثقافة آنذاك، وتعتبر من طعام الأسر المرفهة، “وكان أحد التجار يجمع المال من الأسر كل فترة، ويسافر إلى القاهرة لشراء مخزون من هذه الأنواع. ويتندر البعض بأنه كوّن ثروة من هذه التجارة.”
ويخشى جاد أنه سيواجه مشكلة إذا كانت البيئة المحيطة بابنه في المدرسة تشجع على سلوك التباهي بالطعام.
ويؤكد خبير التغذية، محمد عبد المحسن، على تفاقم هذه المشكلة، “وأرصد الكثير من الحالات لأطفال بين سن الثامنة والعاشرة، مصابين بالسمنة وسوء التغذية بسبب سلوك الأسر الخاطئ في التعامل مع الوجبة المدرسية.”
معدلات السمنة تزيد بين الأطفال في مصر بسبب تناول كميات كبيرة من الحلوى والسكريات>غياب الوعي في زمن المعلومات
ويرى عبد المحسن أن غياب الوعي والمنافسة على شراء علامات تجارية معينة هو المشكلة الأكبر.
“في الماضي، كان الوصول للمعلومة أصعب، لكن الأمهات كن أكثر وعيا بأهمية تقديم وجبات متوازنة ومتنوعة، ولديهن الخبرة في انتقاء قطع الخضروات والفاكهة السليمة، واختبار جودة أنواع الطعام. لكن الآن، في وجود الإنترنت وسهولة البحث والوصول إلى المعلومة، تلجأ الأمهات إلى الحلول السهلة بشراء أنواع الطعام المعلبة والجاهزة، أو اللجوء للأطعمة المقلية.”
وبذلك، تحولت الوجبة المدرسية إلى منافسة على سعر الطعام الذي تحتويه، لا قيمتها الغذائية.
وتشكو الكثير من الأمهات من أن الأطفال يكرهون أنواع الطعام المغذية، مثل الجبن والبيض والخضروات والفاكهة، ويفضلون المعجنات وشرائح الدجاج والبطاطس المقلية.
وهو ما يراه عبد المحسن دليلا آخر على غياب الوعي.
وهناك العديد من العوامل التي تساهم في تعود الطفل على تناول طعام معين، على رأسها نوعية الطعام الذي يتناوله الوالدان، واللغة المستخدمة لوصف الطعام والتشجيع عليه.
“فالطفل يأكل ما تأكله الأسرة. لذا، نصيحتي الأساسية هي ضرورة تناول الأسرة للوجبات معا، وأن تكون مكوناتها صحية ومتوازنة. ويمكن إضافة اللعب إلى مائدة الطعام إذا لزم الأمر، لتشجيع الطفل على تناول أصناف معينة. لكن الكثير من الأسر أصبحت تلجأ للحلول الأسهل بالوجبات الجاهزة”.
الأكل بدافع انفعالي “سلوك يتعلمه الأطفال”
“كارثة المقصف المدرسي”
والمشكلة الأكبر التي تواجه سعيد مع ابنها هي أنواع الطعام التي يقدمها المقصف المدرسي.
وتقول إنه يطلب شراء وجبات من المقصف، “تكون عبارة عن شطائر الدجاج أو اللحم والبطاطس المقلية. وهي أصناف لم يكن من المعتاد تقديمها في المقصف عندما كنت أنا في المدرسة.”
وتلجأ العديد من المدارس حاليا للتعاقد مع شركة أو مطعم لتوريد وجبات سريعة وبيتزا وفطائر، وربما لإدارة المقصف. وهو ما يعد “كارثة داخل المدرسة” على حد وصف عبد المحسن.
وتزيد هذه الوجبات من التنافس المادي بين الأسر، إذ تتباهى كل أسرة بما تقدمه للطفل من مال يمكّنه من شراء وجبات المقصف.
ويقول عبد المحسن إن سلاسل الوجبات السريعة “تستهدف الأطفال بشكل أساسي. فقائمة الطعام ثابتة منذ افتتاح هذه السلاسل، لكنها تغير اللعبة التي تقدمها مع وجبات الأطفال كل شهر. كذلك العلامات التجارية التي تصنّع اللحوم المطهوة تركز دائما على أنها وجبة سهلة ويفضلها الأطفال.”
جيل ضعيف
وتؤثر نوعية الطعام على سلوك الطفل، وقدرته على التحصيل، وبناءه العضلي والجسماني.
وتضرب ساندي مثالا بالطعام الذي يحتوي على كميات من السكر، والذي طلبت المدرسة من الأسر منعه عن الأطفال بسبب حالة النشاط الزائد الناتجة عن فورة السكر.
وبالفعل اتفقت الأسر على عدم تقديم الحلوى بعد رصد عدد من حوادث النشاط الزائد والاشتباك بين الأطفال.
وتلجأ بعض الأسر لتقديم أنواع طعام غنية بالسكر والسعرات الحرارية للأطفال بعد التدريبات الرياضية، ظنا منهم أنها تعوض ما فقده الجسم من عناصر، “لكنهم في حقيقة الأمر يفسدون البناء العضلي لجسم الطفل،” حسبما قال عبد المحسن.
“فالجسم لا يفهم أنواع الطعام، وإنما يفهم العناصر الغذائية. ويستمد احتياجاته من أي نوع، ثم يخزن الزائد عن حاجته في صورة دهون.”
وبذلك، لا يؤثر الطعام على الحياة والموت بشكل مباشر، وإنما على قدرة الجسم على العمل والتحصيل الدراسي، وجودة أداء الوظائف الحيوية.
ويتعلق الطعام الصحي بتنوع العناصر، ما بين البروتين (سواء حيواني أو نباتي) والكربوهيدرات والدهون، والتي يمكن الحصول عليها من أصناف بأسعار منخفضة.
وقد تكون الأسر الفقيرة، الأكثر وعيا بضرورة تنوع الطعام وقيمته الغذائية، أفضل حالاً من الأسر التي تشتري أنواعا باهظة غير مغذية.
وذكر تقرير للاتحاد الدولي للسمنة عام 2016 أن مصر تحتل المركز السابع عالميا من حيث نسبة السمنة بين الأطفال، والتي بلغت 32 في المئة. ويرجع ذلك للنظام الغذائي المنتشر بين الأطفال، والذي يعتمد على اللحوم والكربوهيدرات والسكريات بشكل أساسي.
ويخشى عبد المحسن أنه خلال عقد أو اثنين، سنجد أجيالا ضعيفة البنيان، غير قادرة على العمل والتفكير والإنجاز.