مفهوم – على الرغم من امتلاكها للموارد المالية والفكرية الكافية، لم تجرؤ شركة آبل على دخول عالم مُحرّكات البحث على الإنترنت نظرا لوجود عملاق في هذا المجال يحمل اسم غوغل، وإلى جانبه مجموعة من اللاعبين من بينهم “بينج” (Bing) من مايكروسوفت.
ياندكس (Yandex) الروسي هو أيضا لاعب آخر لا ينقصه في حقيقة الأمر سوى نظام تشغيل للهواتف الذكية لكي يُنافس غوغل في مُعظم مجالاته، وهو الذي يمتاز أيضا بالأقدمية مع ظهوره الذي سبق مُحرّك بحث جوجل بسنوات قليلة.
جوجل روسيا
دائما ما يُنظر إلى “ياندكس” على أنه مُجرّد مُحرّك آخر للبحث إلى جانب جوجل ظهر مع انتشار جوجل الكبير من جهة، ونجاح نموذجها الإعلاني من جهة أُخرى.
لكن بدايات مُحرّك البحث الروسي تعود إلى عام 1990 تقريبا، فمؤسّسا الشركة “إيليا سيغالوفيتش” (Ilya Segalovich) و”آركادي فولوز” (Arkady Volozh) عملا على تطوير تقنيات بحث مُختلفة باستخدام الحاسب منذ بداية تسعينيات القرن الماضي نتج عنها برامج للبحث في الإنجيل، وأُخرى في قاعدة بيانات براءات الاختراع العالمية.
واستمرّت جهود المؤسّسين في تطوير برمجيات مُتخصّصة في هذا المجال إلى أن نجحوا في الوصول إلى خوارزميات جديدة قرّروا إطلاق اسم فريد لها، ومن هنا جاءت كلمة “ياندكس”، وهي اختصار لـ (Yet Another Indexer) أي نظام آخر للأرشفة.
ومع حلول العام 1997، أصبح مُحرّك البحث جاهزا بعد أرشفة أكثر من خمسة آلاف موقع إلكتروني، وتم استعراضه في أحد معارض العاصمة الروسية موسكو، لتبدأ رحلة مُحرّك البحث الحقيقية مع مجموعة أُخرى من الخدمات. وفي تلك الأثناء، كان كل من “لاري بيج” (Larry Page) و”سيرجي برين” (Sergey Brin) يعملون على تطوير النسخة الأولى من مُحرّك بحث غوغل الذي بدأ كبحث أكاديمي في عام 1996، ورأى النور رسميا في عام 1998.
ومنذ البداية، حرصت الشركة الروسية على توفير مجموعة كبيرة جدا من الخدمات لمُستخدميها، بدءا من الإعلانات التي تظهر داخل الموقع، وهذا في عام 1998، مرورا بخدمات كالأخبار (Yandex.News)، وحالة الطقس، والبريد الإلكتروني (Yandex.Mail)، واستضافة المواقع، والبضائع (Yandex Goods)، وهذا في عام 2000، بالإضافة إلى مُحرّكات للبحث في الموسوعات الإلكترونية (Yandex.Encylopedias) والصور (Yandex.Images)، دون نسيان المتجر الإلكتروني (Yandex.Market) الذي يربط أكثر من 150 متجرا إلكترونيا لبيع الكتب، والأفلام، والبضائع المُختلفة. في 2003، أطلقت الشركة نظامها الخاص بالخرائط (Yandex.Maps) مع تطويره فيما بعد لتقديم بيانات حيّة عن حالة الطُرقات والازدحام فيها. كما توسّعت شبكتها الإعلانية أيضا مع توفير خيارات مُختلفة مثل الدفع لقاء النقرات فقط، عوضا عن الدفع لقاء الظهور(1).
جهود الشركة تضمّنت أيضا مُحاولة توفير خدمة الاتصال بالإنترنت، وهذا في عام 2006، أي قبل المحاولات المُكثّفة لكل من غوغل وفيسبوك. وشهدت تلك الفترة من الزمن بزوغ عصر الخدمات الجديدة كالشبكات الاجتماعية، ومن هنا عملت الشركة على تطوير خدمة لمشاركة ومُشاهدة مقاطع الفيديو (Yandex.Video)، وأُخرى للإحصائيات خاصّة بالمواقع والتطبيقات (Yandex.Metrica)، لتبدأ بعدها بتطوير بعض التطبيقات كبرنامج لمكافحة الفيروسات، ومُتصفّح للإنترنت، وخدمة للترجمة، وأُخرى للتشفير والحماية.
خدمات الشركة لا تنتهي أبدا، ومن قام بتشبيهها على أنها جوجل الروسي لم يكذب. فالشركة تتشابه مع غوغل في كل شيء، باستثناء تطوير نظام تشغيل للهواتف الذكية، الأمر الذي لم تتركه “ياندكس” يمر دون الحراك فيه، فهي طوّرت متجرا خاصا للتطبيقات، ليكون بديلا لمتجر “جوجل بلاي” (Google Play).
التفوق على جوجل؟
مع حلول عام 2005، وصل عدد زوّار “ياندكس” اليوميين إلى 3 ملايين مُستخدم تقريبا، إلا أن تلك الأرقام لم ترق لطموح القائمين على الشركة مما دفعهم إلى الانتشار في الدول المُجاورة، لتبدأ في التوسّع بداية في أوكرانيا، ثم كزخستان، ومنها إلى بيلاروسيا، وتركيا في العام 2011، كما افتتحت أيضا مكاتبها الرسمية في مجموعة من دول القارّة الأوروبية، والولايات المتحدة الأميركية.
التوسّع التدريجي في البلدان المجاورة سمح للشركة في تقديم خدمات بجودة مُميّزة لأن الشركة كانت تُجهّز لفترة من الزمن قبل دخولها السوق الجديدة، وهذا يعني تخصيص مُحرّك البحث واستيعاب عادات المُستخدمين، إضافة إلى تطوير بعض البنى التحتيّة كنظام الخرائط أو الترجمة.
ومنذ البدايات، امتلك “ياندكس” أفضليّة على مُحرّك بحث جوجل الذي اعتمد أولا على اللغة الإنجليزية، في وقت بُني فيه “ياندكس” اعتمادا على اللغة الروسية التي تُعتبر أكثر تعقيدا وتُشبه بعض اللغات مثل التركية أو العربية، فالكلمة ذاتها تُضاف إليها مجموعة مُختلفة من اللواحق فيتغيّر المعنى أو الزمن. ومن هنا، تفوّق “ياندكس” في روسيا أولا خصوصا في أرشفة الصفحات التي تتحدّث بلغة المُستخدمين الأُم. وبالأرقام، فإن حصّة “ياندكس” تبلغ 54٪ تقريبا في روسيا، مُقابل 34.7٪ بالنسبة لغوغل، مع نسبة نمو سنوية مُرتفعة، أو ثابتة تقريبا دون نزول.
اللغة وتجهيز البنى التحتيّة قبل دخول أي سوق جديدة لم تكن الأسباب الوحيدة لتفوّق “ياندكس”، أو لصموده في وجه غوغل على الأقل، فتوسّع الشركة في مجالات مُختلفة كان له الأثر الأكبر، دون نسيان المخاوف الأمنية التي تُحيط بغوغل خصوصا بعد تسريبات “إدوارد سنودن” التي كشفت الوجه القبيح للشركات التقنية الأميركية.
وبالعودة من جديد للابتكار، فإن “ياندكس” تُركّز أيضا على الذكاء الاصطناعي بصورة كبيرة جدا. كما أن جهودها في مجال القيادة الذاتية دون حدود، ونجحت في اختبار مجموعة مُختلفة من السيّارات ذاتية القيادة في شوارع موسكو، ومدن روسيّة أُخرى، وتلك اختبارات عادت بنتائج إيجابية مع أخذ الثلوج وطبيعة القيادة الصعبة في روسيا بعين الاعتبار، وهي التي تُعتبر أشد قسوة من تلك الموجودة في أميركا، فاستخدام الزمامير أثناء القيادة أمر عادي لا يُعاقب عليه القانون، والتجاوز بسرعات مُختلفة ينطبق عليه الأمر نفسه، ومن هنا تبدأ عملية نظام القيادة الذاتية بقراءة البيانات من العجلات كالسرعة والاتجاه، وبالاستفادة من بيانات المُستشعرات الضوئية، يقوم النظام بتحديد موقع السيّارة على الخارطة بدقّة كبيرة، وهنا الحديث عن تحديد الأبعاد بالسنتيمتر، وهذا يعني معرفة مسرى القيادة والبعد عن بعض العناصر الثابتة. بعدها تبدأ المهام الاعتيادية كالتعرّف على العناصر المُحيطة ومن ثم اتخاذ القرار المناسب من أجل الوصول إلى الوجهة المطلوبة دون أضرار.
وعلى خُطى العملاق الصيني علي بابا، وإلى جانب كل من أمازون وغوغل ومايكروسوفت، أبت “ياندكس” أن تكون خارج لعبة التخزين السحابي، لتُعلن مؤخّرا عن منصّتها السحابية التي توفّر مجموعة مُختلفة من الحلول للمُطوّرين ولأصحاب المواقع، لتُكمل بذلك سلسلة مُنتجاتها التي تتجاوز حاجز الـ 70 والتي سمحت لها الوقوف في وجه كُبرى الشركات التقنية على مستوى العالم(7). وبعد النظر إلى شركات مثل “كاسبرسكي” (KasperSky) أو “تيليغرام” (Telegram)، يُمكن التأكّد من أن الدُب الروسي خصم تقني ثقيل الوزن لا يُمكن الاستهانة به أبدا.