يعرّف العلامة ابن سيرين، وهو أبوبكر “محمد بن سيرين” البصري، بوصفه رائد علم تفسير الأحلام في الإسلام، حيث جمع بين معارف اللغة والحكمة والبصيرة البعيدة التي مكنته من تأسيس ريادته في هذا “الفن” مثلما كان النبي يوسف في عصره.
ولد ابن سيرين بالبصرة في 33 هجرية الموافق 653 ميلادية، وتوفي في 110 هجرية الموافق 729 ميلادية، حيث عاش قرابة 76 إلى 77 سنة.
وقد عرف بصداقته مع الناسك الصوفي الحسن البصري (21 – 110 هـ)، وقد توفي بعده بمئة يوم فقط، وكلاهما اختط طريقاً لا يختلف عن صديقه، كثيراً في فتح مساحة للتأمل خارج مألوف الناس. لكن يروى أنهما تهاجرا لسبب غير معلوم، في آخر الأيام، وقد مات الحسن ولم يشهد صديقه جنازته حيب تقرير موسع نشرته العربية عن العلامة ابن سيرين.
عن عائلته
ينحدر جده ابن سيرين من منطقة جرجرايا الواقعة بين وسط وبغداد بشرق نهر دجلة، وقد كان مولد الحفيد أبوبكر في سنوات الخليفة الثالث عثمان بن عفان، حيث ولد قبل توليه الخلافة بعامين.
كان والد أبوبكر بن سيرين مملوكاً لأنس بن مالك، أخذه بعد معركة عين التمر التي وقعت سنة 12 هجرية، بين جيش خالد بن الوليد وجيوش الساسانية والفرس غرب مدينة الأنبار، وحيث فتح خالد تلك المنطقة في أيام خلافة أبوبكر الصديق.
وقبل ذلك عمل الوالد محمد صانعاً للقدور النحاسية، وجاء ليعمل في عين التمر، حيث انتقل من هناك ليكون بصحبة أنس بن مالك، إلى أن أعتقه فيما بعد، لكن العلاقة ظلت متصلة بينهما في الابن أبوبكر الذي خدم مع أنس. ولأبوبكر أخ اسمه أنس، واضح من التسمية أنه سمي على أنس بن مالك.
أما والدته، فاسمها صفية، وقد عرفت بالصلاح، وقد كانت أمة لأبوبكر الصديق، قبل أن يتم عتقها، وبالتالي فقد أخذ أبوبكر اسمه عن مالك أمه سابقاً الخليفة الأول للمسلمين.
وربطت ابن سيرين علاقة حميمة مع والدته، حيث كان كل من يراهما لا يعرف أن هذه أمه من شدة التعلق بينهما وحيث شديد التأدب معها وكان لا يرفع صوته أمامها أبداً.
وقد نشأ ابن سيرين في بيت نهل فيه العلم مباشرة عن عدد من الصحابة ومنهم: زيد بن ثابت وعمران بن الحصين وأنس بن مالك وأبو هريرة وعبد الله بن الزبير.
من صفاته
عرف ابن سيرين بشعره المخضب بالحناء، وكان علامة مميزة له وقد كان قصير القامة، به بعض من الصمم، لكن ذلك لم يحول دون معاشرته للناس، حيث عرف بالمزاح البريء وكثرة الضحك، ولعله اكتسب تأويل الأحلام من خلال تلك النزعة الساخرة من الأشياء.
ورغم ميله للضحك فإنه كان كثير البكاء في الليل في بيته، وكان ينشد الشعر أيضا في بعض المرات.
عرف عنه أيضا أنه كان كثير الصيام وقيل إنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يتعشى ليلة الصوم، بالإضافة إلى حبه للعلم وقد عاشر العديد من العلماء في عصره.
وقد قيل عنه أيضا إنه إذا مرّ بالسوق كبّر الناس، حيث كان يقضي حوائجهم ويساعدهم بما تيسر له، ولهذا كانوا يحبونه.
وقد أنجب حوالي 30 ولداً، ولم يبق منهم سوى عبد الله الذي قضى دين والده بعد وفاته، وكان مبلغاً قدره 30 ألف درهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلم الخلق بعد يوسف عليه السلام بتعبير الرؤى وتأويلها، وقد شرع لأمته أسس وقواعد التعبير، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
1. “إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب”.
2. “أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً”.
3. “رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة”.
4. “رؤيا الأنبياء حق”.
5. “اللبن فطرة، والقيد ثبات في الدين، والغرق نار، لقوله تعالى: “أغرقوا فأدخلوا ناراً”1.
6. “من رآني – في المنام – فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي”، هذا إذا رآه على صورته التي كان عليها ولم يخرم منها صفة من صفاته.
من أبرز مؤلفات ابن سيرين كتاب تفسير الأحلام. كان ابن سيرين من أئمة التعبير.
قال الذهبي رحمه الله: (قد جاء عن ابن سيرين في التعبير عجائب يطول ذكرها، وكان له في ذلك تأييد إلهي).4
ليس كل ما نسب إلى ابن سيرين يصح عنه، ومن جملة ذلك المؤلف المنسوب إليه في ذلك.
قال هشام بن حسان: كان ابن سيرين يسأل عن مائة رؤيا، فلا يجيب فيها بشيء، إلا أنه يقول: اتق الله وأحسن في اليقظة، فإنه لا يضرك ما رأيت في النوم؛ وكان يجيب في خلال ذلك، ويقول: إنما أجيب بالظن، والظن يخطئ ويصيب.
قيل لابن سيرين: إنك تستقبل الرجل بما يكره؛ قال: إنه علم أكره كتمانه).
1. قال رجل لابن سيرين: رأيتُ كأني آكل خبيصاً6 في الصلاة؛ قال: الخبيص حلال طيِّب، ولا يحل الأكل في الصلاة، أنت رجل تقبل امرأتك وأنت صائم؛ قال: نعم؛ قال: فلا تعد.
2. وقال ابن سيرين في جنازة يتبعها الناس: هذا قائد له أتباع.
3. قال رجل لابن سيرين: رأيتُ في المنام كأن قرداً يأكل معي على مائدة؛ فقال: هذا غلام أمرد اتخذه بعض نسائك.
4. قال رجل لابن سيرين: رأيتُ في المنام كأني أطير بين السماء والأرض؛ فقال: أراك تكثر الأماني.
5. قال رجل لابن سيرين: رأيت في المنام كأن لحيتي بلغت سرتي، وأنا أنظر إليها؛ فقال: أنت رجل مؤذن تنظر في دور الجيران.
6. سئل ابن سيرين عن الفيل في النوم؛ فقال: أمر جسيم قليل المنفعة.
7. كان ابن سيرين يستحب الزيت في النوم، ويقول: هو بركة كله، إن أكلته، أوأدخلته بيتك، أوشربته، أوادهنت به، أوتلطخت به، لأنه شجرة مباركة.
8. كان ابن سيرين يقول: الماء في النوم فتنة، وبلاء في الدين، وأمر شديد، لأن الله تعالى يقول: “إن الله مبتليكم بنهر”7، وقال: “ماء غدقاً لنفتنهم فيه”8.
وقال ابن سيرين: ومن عَبَر نهراً قطع بلاء وفتنة ومشقة، ونجا من ذلك.
9. أتى رجل ابن سيرين، فقال له: خطبتُ امرأة فرأيتها في المنام؛ فقال له ابن سيرين: كيف رأيتها؟ قال: رأيتها سوداء قصيرة، مكسورة الفم؛ فقال ابن سيرين: أما الذي رأيت من سوادها فإنها امرأة لها مال، وأما ما رأيت من كسر فمها فإنها امرأة فظيعة اللسان، وأما ما رأيت من قصرها، فإنها امرأة قصيرة العمر، فتوشك أن تموت عاجلاً؛ فذهب فتزوجها.
10. وكان ابن سيرين يعبر الرجل إذا رأى أنه حل إزاره، أوانحل، قال: هذا رجل يرزق امرأة.
11. وكان ابن سيرين لا يعبر الخاتم في المنام إلا امرأة يستفيدها، وكذلك كان هشام بن حسان9 لا يعبر الفص في الخاتم، إلا أنه يقول: امرأة فيها قسوة.
12. قال معمر: جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيتُ كأن حمامة التقمت لؤلؤة فخرجت منها أعظم ما كانت، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت أصغر مما دخلت، ورأيت أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت كما دخلت؛ فقال ابن سيرين: أما الأولى فذلك الحسن، يسمع الحديث فيجوده بمنطقه، ويصل فيه من مواعظه، وأما التي صغرت فأنا أسمع الحديث فأسقط منه، وأما التي خرجت كما دخلت فقتادة، فهو أحفظ الناس.
13. روى ابن المبارك عن عبد الله بن مسلم المروزي قال: كنت أجالس ابن سيرين، فتركته وجالست الإباضية10، فرأيت كأني مع قوم يحملون جنازة النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيتُ ابن سيرين فذكرته له؛ فقال: مالك جالستَ أقواماً يريدون أن يدفنوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
14. وعن هشام بن حسان قال: قصَّ رجل على ابن سيرين فقال: رأيتُ كأن بيدي قدحاً من زجاج فيه ماء، فانكسر القدح وبقي الماء، فقال له: اتق الله فإنك لم تر شيئاً؛ فقال: سبحان الله؛ قال ابن سيرين: فمن كذب فما عليَّ، ستلد امرأتك وتموت، ويبقى ولدها؛ فلما خرج الرجل قال: والله ما رأيتُ شيئاً؛ فما لبث أن ولد له، وماتت امرأته.
15. وقال رجل لابن سيرين: كأني وجارية سوداء نأكل في قصعة سمكة؛ فقال: أتهيئ لي طعاماً وتدعوني؟ قال: نعم؛ ففعل، فلما وضعت المائدة فإذا جارية سوداء، فقال له ابن سيرين: هل أصبت هذه؟ قال: لا؛ قال: فادخل بها المخدع؛ فدخل وصاح: يا أبابكر، رجل والله؛ فقال: هذا الذي شاركك في أهلك.
16. سأل رجل ابن سيرين فقال: رأيت كأن الجوزاء تقدمت الثريا؛ قال: هذا الحسن يموت قبلي ثم أتبعه، وهو أرفع مني.
علاقته بأنس بن مالك
وإذا كان ثمة علاقة قديمة تربط أبوه بأنس بن مالك فإن الابن قد نهل العلم عن أنس وعاد للتعرف به في فارس، حيث عمل معه ككاتب، وقد ربطتهما علاقة قوية ومودة كبيرة.
ولما مات أنس بالبصرة سنة 83 هجرية أيام الوليد بن عبد الملك، أوصى بأن يصلي عليه ابن سيرين دون سواه، وأن يقوم بغسله، ولكن الإشكال أن الرجل كان مسجوناً.
ومن ثم تم استئذان الأمير وهو رجل من بنى أسد، فأتى بابن سيرين من السجن حيث صلى على أنس ومن ثم أعيد لسجنه.
قصة الأحلام
مؤلفه الأساسي “منتخب الكلام في تفسير الأحلام”، يعتبر مرجعاً مهماً إلى اليوم، وإذا كانت مرجعيات ابن سيرين في التفسير لا تزال غامضة إلى اليوم ولم تتم إضاءتها بدراسات كافية تكشف عن عبقريته في هذا المجال وريادته، إلا أن الواضح عنده أن كان يتبع في التأويل المعنى الدلالي المباشر.
وقد جمع بين التأويل وقراءة خاطر الإنسان ما يعطي دلالة الحلم الذي يسمعه من صاحبه، حيث كان يفسر للناس مباشرة أحلامهم في الأسواق وفي مجلسه.
وقد كان جريئاً في تفسير الأحلام حتى على الحكام، وتعرض بسبب ذلك للمتاعب لكنه لم يأبه.
بساطة حياته
لم يسع ابن سيرين إلى التكسب من وراء ذلك العمل الفطري والموهبة التي تمتع بها في تفسير الأحلام، بل إنه عانى في حياته كثيراً من الفقر، وكانت له مواقف مع الأمويين الذين رفض عطاياهم فدخل السجن.
وقد كان يعمل في السوق بالنهار ويقضي الليل في العلم والذكر، وكان عمله في صناعة الثياب “بزازاً، أي له معرفة دقيقة بالثياب وألوانها والمتاجرة بها، وقد كان يبيعها ويشتري فيها.
وقد كانت معرفته بالثياب لا تقل عن شأنه في علوم الأحلام، لكنه على ما يبدو لم يكن مكترثاً بشكل كبير لأمر المال والتجارة.
معاصرته للحجاج
عاصر ابن سيرين الحجاج بن يوسف الثقفي (توفي 95 هجرية)، والعديد من أمراء وخلفاء بني أمية، ورغم الاختلاف بينهما إلا أن ابن سيرين رفض سبّ الحجاج بعد موته، من قبل معاديه، وكان يقول إن الذنوب هي تقدير الخالق.
ويروى أن الحجاج بن يوسف رأى في منامه رؤيا كأن حوراوين أتتاه فأخذ إحداهما وفاتته الأخرى، فكتب بذلك إلى عبد الملك بن مروان، فكتب إليه عبد الملك قائلاً: “هنيئا يا أبا محمد”، فبلغ ذلك ابن سيرين فقال: “أخطأت هذه فتنتان يدرك إحداهما وتفوته الأخرى، قال فأدرك الجماجم وفاتته الأخرى”.