مفهوم – بعد مرور قرن على تفشي وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي حصد أرواح زهاء 100 مليون شخص، يقول خبراء إن سلالة جديدة من فيروس الإنفلونزا تعادل في شدتها سلالة الفيروس التي تسببت في وباء الإنفلونزا الإسبانية ستظهر لا محالة إن عاجلا أو آجلا.
في نفس هذا الوقت منذ نحو مئة عام، بدا أن موسم الإنفلونزا قد انتهى ويستعد للرحيل. إذ كان أكثر من أصيبوا بالمرض في الربيع قد استردوا عافيتهم، ولم تكن معدلات الوفيات مرتفعة عن المعتاد. ولم تهتم الصحف آنذاك بالانفلونزا بقدر اهتمامها بأخبار الحرب العالمية الأولى.
لكن مع حلول الخريف، انقلب الوضع رأسا على عقب. فهذا الفيروس المعتاد عاود الظهور في صورة سلالة شديدة الضراوة، سببت وباء ضرب أمريكا الشمالية وأوروبا، وأوقع آلاف الضحايا في غضون ساعات أو أيام قليلة من الإصابة. وبعد أربعة أشهر، اندلع الوباء الذي عرف فيما بعد باسم “الإنفلونزا الإسبانية” في العالم من أدناه إلى أقصاه، ولم تسلم حتى أكثر المجتمعات عزلة من ضرره.
وعندما بلغ الوباء ذروته في الربيع اللاحق، قُدر عدد القتلى بنحو 50 إلى 100 مليون ضحية، ما يعادل خمسة في المئة من سكان الأرض.
ربما يبدو الآن وباء الإنفلونزا الإسبانية، بعد مرور قرن على تفشيه، كسائر الأوبئة المروعة التي أصبحنا بمنأى عنها بعد أن أُعلِن عن استئصالها كليا أو إلى حد كبير، مثل وباء الجدري الفتاك، أو الطاعون الدملي.
لكن في الواقع، لا تزال الإنفلونزا تحصد أرواح 250 ألف شخص إلى 500 ألف شخص سنويا، وتظهر كل عام سلالة جديدة من فيروس الإنفلونزا الموسمية، تختلف اختلافا طفيفا عن السلالة التي تسبقها، وقد تنشأ سلالات جديدة نتيجة للتبادل الجيني بين السلالات المختلفة من فيروس الإنفلونزا داخل جسم العائل، وتكون أكثر قدرة على الانتشار وإحداث وباء عام.
وبخلاف الإنفلونزا الإسبانية في عام 1918، تفشت موجات وبائية أخرى للإنفلونزا خلال الأعوام المئة اللاحقة، في أعوام 1957، و1968، و1977، و2009.
وبالنظر إلى قدرة فيروسات الإنفلونزا على التحور واستمرار دورة انتقالها في الطبيعة (إذ تعد الطيور المائية البرية مستودعا طبيعيا لفيروس الانفلونزا)، يُجمع الخبراء على أن ظهور فيروس لا يقل ضراوة عن الفيروس المسبب للإنفلونزا الإسبانية- أو ربما أشد منه فتكا- يعد مسألة وقت.
يقول مايكل أوستيرهولم، مدير مركز سياسات وأبحاث الأمراض المعدية بجامعة مينيسوتا: “إن أوبئة الإنفلونزا وجوائحها، كما الزلازل والأعاصير والعواصف، بعضها أشد فتكا من البعض الآخر. لكن من السذاجة أن نستبعد حدوث جائحة تعادل في شدتها جائحة إنفلونزا عام 1918”.
إلا إنه من المستحيل التنبؤ بموعد حدوثها، على حد قول أوستيرهولم، ويتابع: “فقد تبدأ الجائحة الآن أثناء حديثنا”، إذ من المستحيل أن نعرف كيف ستتهيأ الظروف المواتية لظهور سلالة من الفيروس لا تقل شراسة عن سلالة الفيروس المسبب لوباء الإنفلونزا الإسبانية.
لكننا قد نتكهن بمسار تفشي الوباء بناء على المعلومات التي جمعناها عن الأوبئة السابقة.
يقول روبرت ويبستر، من إدارة الأمراض المعدية بمستشفى سانت جود لأبحاث طب الأطفال، إن تحجيم آثار الفيروس سيتوقف على رصده قبل انتشاره، ولدينا من الأنظمة ما يتيح لنا الرصد المبكر للفيروسات، مثل فريق رصد الانفلونزا التابع لمنظمة الصحة العالمية المعني بمراقبة تطور الفيروس في ستة معامل حول العالم، بالإضافة إلى شبكة انفلونزا الحيوانات (أوفلو) التابعة لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التي تعمل على رصد تطور الفيروس لدى الطيور والخنازير.
ورغم ذلك، يقول ويبستر: “من المحال بالطبع أن نفحص كل طائر وكل خنزير في العالم، ولكننا سنكون محظوظين للغاية إن استطعنا أن نحتوي الفيروس قبل تفشيه”.
لا يمكن التصدي لانتشار الفيروس إلا بعزل المصابين به. لكن في حالة تفشي وباء فتاك في الوقت الحالي، هل من الممكن عزل كل مصاب في هذا العالم المكتظ بالسكان؟
فمبجرد ما تنتقل العدوى إلى البشر، وهذا احتمال وارد بالطبع، على حد قول ويبستر، سيتفشى الفيروس في شتى أنحاء المعمورة، ربما في غضون أسابيع، بالنظر إلى مستوى الهجرة والتنقل البشري في الوقت الراهن.
ويقول جيراردو شوويل، أستاذ علم الأوبئة والاحصائيات الحيوية بجامعة ولاية جورجيا: “إن فيروس الإنفلونزا هو واحد من الفيروسات التي عندما تصيب الفئات السكانية الأكثر تعرضا لخطر الإصابة تسبب فاشيات وأوبئة. فمن المعروف أن العدوى تنتقل من شخص لآخر قبل ظهور أعراض المرض بيوم تقريبا”.
ولأن عدد سكان العالم قد زاد على مدى المئة عام الماضية بما يتجاوز أربعة أضعاف، فمن المتوقع أن يرتفع عدد الإصابات والوفيات أيضا بما يتناسب مع هذه الزيادة.
فإذا حصد فيروس الإنفلونزا في عام 1918 أرواح 50 مليون شخص، من المتوقع أن يخلف الوباء حال حدوثه في الوقت الحالي 200 مليون بين قتيل ومصاب.
وربما تتفاوت معدلات الوفيات من بلد لآخر، إذ وصل التباين بين معدلات الوفيات الناجمة عن وباء الإنفلونزا الإسبانية إلى 30 ضعف في بلدان عدة. إذ حصد الوباء أرواح ثمانية في المئة من سكان الهند على سبيل المثال، بينما لم يقتل إلا أقل من واحد في المئة من سكان الدنمارك.
وبالمثل، في عام 2009، أوقع وباء فيروس انفلونزا الخنازير في فرنسا عُشر عدد الضحايا التي أوقعها في المكسيك.
ويُرجع الخبراء هذا التفاوت إلى عوامل عديدة، منها اكتساب السكان مناعة من الفيروس لتعرضهم لفيروسات مشابهة من قبل، والفروق الوراثية التي قد تجعل بعض الأعراق أكثر عرضة للإصابة من غيرها، إذ كان شعب الماوري، وهم السكان الأصليون لنيوزيلندا، على سبيل المثال أكثر عرضة لخطر الوفاة بعد الإصابة بالإنفلونزا الإسبانية بواقع سبعة أضعاف المعدل العالمي.
وتساهم أيضا العوامل المرتبطة بالفقر، كتردي مستويات النظافة العامة وغياب الرعاية الصحية، في تفاقم تداعيات موجات وباء الإنفلونزا، إذ يقول شوويل: “في عام 2009، لم يلجأ الكثيرون إلى المستشفيات إلا بعد أن استشرى المرض في أجسامهم، ولم يكن العلاج يجدي نفعا”.
“فريق مكافحة الأوبئةلابد أن تخصص الحكومات موارد ضخمة لوقف انتشار الأوبئة
إذ كان قرار الذهاب للطبيب قرارا اقتصاديا للكثيرين في المقام الأول، لأنه سيعني الحصول على إجازة وبالتالي الحرمان من أجر يوم العمل.
وإذا اجتاح الوباء في الوقت الحالي الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها من البلدان التي تفتقر إلى أنظمة رعاية صحية توفر تغطية صحية شاملة لجميع السكان، ستشتد وطأة الوباء على الأشخاص المحرومين من التأمين الصحي لنفس العوامل الاجتماعية والاقتصادية.
فمن المرجح أن يمتنع المصاب الذي لا تشمله مظلة التأمين الصحي عن الذهاب إلى المستشفى بسبب تكاليف العلاج الباهظة، وينتظر حتى تستعصي حالته على العلاج. ويقول شوويل: “رأينا ذلك بالفعل مع بعض الأمراض المعدية الأخرى”.
ويقول لون سايمونسن، أخصائي علم الأوبئة والأمراض المعدية بجامعة روسكيلدا بالدنمارك وجامعة جورج واشنطن، إن اللقاحات هي أفضل وسيلة لكبح تفشي الوباء. ولكن هذا يتطلب تحديد نوع الفيروس أولا لإعداد اللقاح المناسب له ثم توزيعه حول العالم، وهذه العملية قد تستغرق شهورا. ولو نجحنا في تطوير هذا اللقاح، لن نتمكن أبدا من توفير الجرعات الكافية لجميع سكان العالم.
ويضيف سيمونسين: “لا يحصل على اللقاح إلا 1 أو 2 في المئة من سكان الأرض في الأشهر الستة أو التسعة الأولى من تطويره، ناهيك عن أن لقاحات الإنفلونزا الموسمية المتوفرة حاليا فعالة بنسبة 60 في المئة فقط، في أحسن الظروف”.
ويشير تشوويل إلى أن مخزون أدوية علاج الإنفلونزا، مثل “التاميفلو” لا يكفي للتصدي للأوبئة، ويقول: “هناك نقص في إمدادات مضادات الفيروسات حتى في الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد أغنى دولة في العالم، فما بالك بالهند والصين والمكسيك.”
وبالإضافة إلى ذلك، يقول ويبستر إن الأدوية المتوفرة أقل فعالية في علاج فيروسات الإنفلونزا مقارنة بالعقاقير المشابهة التي تستخدم في علاج أمراض أخرى، وذلك لأن العالم يستهين بالإنفلونزا الموسمية.
ويضيف: “لا يجتذب المرض اهتمام المجتمع العلمي إلا بعد اندلاع وباء خطير، مثلما حدث مع فيروس نقص المناعة البشري”.
إذا اجتاح العالم وباء فتاك، قد يصبح التخلص من جثث عشرات الملايين من الضحايا إحدى المشكلات الكبرى التي سيواجهها العالم
ويقول أوسترهولم، إنه في ضوء هذه المعطيات، لو تفشى وباء في الوقت الحالي ستعجز المستشفيات عن استيعاب أعداد المرضى، وستنفد الأدوية واللقاحات على الفور.
ويضيف: “إن أعداد المرضى في موسم الإنفلونزا العام الحالي، فاقت قدرة نظام الرعاية الصحية على استيعابها، رغم أنه لم يكن موسما استثنيائيا، ولكنه يكشف عن مدى محدودية قدرة أنظمتنا على الاستجابة للزيادة الكبيرة في عدد الحالات”.
وكما حدث في عام 1918، ستصاب على الأرجح مدن بأكملها حول العالم بالشلل إثر ارتفاع أعداد الإصابات والوفيات. وقد تُغلق شركات ومدارس وتتوقف المواصلات العامة، وربما تُفصل الكهرباء، وتتكدس الجثث على قوارع الطرق.
وسرعان ما يشح الطعام، ويقل مخزون الأدوية التي يعتمد عليها ملايين المرضى للبقاء على قيد الحياة، مثل أدوية مرضى السكري والقلب وأدوية تثبيط المناعة.
ويقول أوسترهولم: “إذا حال الوباء دون إنتاج هذه الأدوية أو نقلها، لن يمضي وقت طويل حتى يموت الكثيرون بسبب نقصها. فإن تفشي وباء بقوة وباء 1918 قد يترتب عليه خسائر فادحة في الأرواح”.
وحتى بعد القضاء على الفيروس، سنظل نعاني من تداعياته لسنوات طويلة. ويقول سايمونسين إن 95 في المئة من ضحايا وباء الإنفلونزا عام 1918، لم يكونوا مسنين ولا أطفالا، بل كانوا في ريعان شبابهم، ولم يخلف ذلك عواقب وخيمة على الأسر فقط، مثل تيتم أعداد لا تحصى من الأطفال، بل خلف أيضا فجوة شاسعة في الأيدي العاملة.
ولم يكتشف العلماء أسباب إجهاز الفيروس بهذا الشكل على الشباب إلا في عام 2005، إذ تمكن باحثون من دراسة التركيب الجيني لفيروس الإنفلونزا الإسبانية باستخدام العينات المستعادة من مدينة بريفيغ ميشين، بولاية آلاسكا، التي أودى الوباء بحياة 72 شخصا من سكانها البالغ عددهم 80 شخصا في أقل من أسبوع.
إذ استطاع أحد علماء الأحياء الدقيقة أن يستخرج جينات الفيروسات من رئة إحدى الضحايا، التي ساعدت الطبقة دائمة التجمد على حفظ جثتها.
واكتشف العلماء من خلال إعادة تخليق سلالة الفيروس المسببة لوباء الإنفلونزا في عام 1918 وحقنه في حيوانات مخبرية، أن هذه السلالة تتكاثر بسرعة فائقة، إلى حد أنها تثير استجابة مناعية طبيعية، يطلق عليها متلازمة إفراز السيتكوين أو “عاصفة السيتوكين”، إذ يطلق الجسم كميات هائلة من المواد الكميائية التي يفترض بها أن تقضي على الأجسام الدخيلة التي تغزو الجسم.
وتسبب هذه السيتوكينات نفسها أضرارا للجسم إلى حد ما، فهي المسؤولة عن الآلام والأوجاع التي يشعر بها المريض المصاب بالإنفلونزا، وقد تعيق الكميات المضاعفة أعضاء الجسم عن القيام بوظائفها بطريقة طبيعية، ومن ثم تؤدي إلى فشل أجهزة متعددة من الجسم.
ويرى الباحثون أن الأجهزة المناعية القوية للشباب ولدت استجابة قوية للفيروس قد تكون أدت إلى موتهم. ويقول ويبستر: “توصلنا أخيرا إلى سبب ضراوة هذا الفيروس التي تجعله قادرا على الفتك بالمصاب، فهو يدفع الجسم إلى قتل نفسه”.
وقد طور باحثون على مدى العقود الماضية علاجات عديدة تعتمد على تعديل الاستجابة المناعية قد تسهم في الحد من إفراز السيتكوينات.
لكن هذه العلاجات لا تخلو من العيوب، كما إنها لم تُطرح على نطاق واسع. ويقول أوسترهولم: “منذ عام 1918، لم نطور علاجات فعالة بعد لتثبيط الاستجابة المناعية المفرطة لفيروس الانفلونزا أو عاصفة السيتوكين. وباستثناء أجهزة التنفس الصناعي أو أجهزة ضخ الدم في الجسم التي قد تسهم في إطالة عمر المصاب، فإن المحصلة الإجمالية لسنوات من الأبحاث والتطوير غير مبشرة بالمرة”.
ويقول شوويل إن هذا يعني أنه في حالة حدوث وباء انفلونزا بنفس شدة وباء 1918، سيكون أكثر ضحاياه أيضا من الشباب، لكن عواقب تراجع أعداد الشباب الآن بعد زيادة متوسط العمر المتوقع على مدى العقود الماضية، ستكون أكثر فداحة مما كانت عليه في القرن الماضي سواء على الاقتصاد أو المجتمع.
إلا أن ثمة بصيصا من الأمل وسط كل هذا التشاؤم، يتمثل في تطوير لقاح إنفلونزا شامل، يوفر حماية تدوم لفترة طويلة ضد طيف واسع من سلالات فيروسات الإنفلونزا.
وقد رُصدت أموال ضخمة للعمل على تحقيق هذا الحلم الذي طالما راود الباحثين، ووظفت طاقات هائلة للعمل على تطويره بعد أن ترددت أصداؤه في أنحاء العالم.
ويقول ويبستر: “يعكف الباحثون الآن على إجراء تجارب لتطوير هذا اللقاح، ونأمل أن ينجحوا في التوصل إليه قبل ظهور الفيروس الفتاك المرتقب. ولكننا في الوقت الراهن، ريثما يظهر اللقاح الشامل، لسنا مستعدين بالمرة لتحمل وباء قاتل”.