أنت مدعو للعيش في اليابان إذا أتقنت ال “سومي ماسين”

مفهوم – تعرف اليابان بتعابير الاعتذار الكثيرة، والتي تبدو إنكارا للذات لدرجة الامتهان ويراها الأغراب أسلوبا للحياة في تلك البلاد، ومنها إيماءات وحركات كرفع اليد مقابل الجبهة اعتذارا والتماسا من قبل اليابانيات المسنات صغيرات الحجم بينما يحاولن المرور بين حشود المارة كزوارق صغيرة في بحر متلاطم.

في كل مكان في اليابان تتردد أصداء عبارة “سومي ماسين” والتي تترجم “معذرةً!”، والتي تسمعها في الطرقات، وقرب الأبواب، وعند استخدام  سيارات الأجرة، والمحال، والمطاعم، متفوقة على عبارة “أريغاتو!” أو “شكرا!”

كانت الساعة الواحدة صباحا في طوكيو وكنا نحاول دخول إحدى الشقق بمفتاح إضافي بعد أن جهدنا في الوصول إلى المكان المستأجر حتى بلغنا أخيرا ما اعتقدنا لا محالة أنه شقتنا، أو هكذا بدا الأمر بعد منتصف الليل.

وجدنا مفتاحا بصندوق البريد كما قالت لنا مضيفتنا. في البداية لم يتطابق الصندوق والرقم السري فما كان عليّ إلا تمرير أصابعي بمرونة عبر الفتحة والتقاط المفتاح!

لم نتوقف لمراجعة أنفسنا بل هممنا بالدخول بعد رحلة طيران استمرت 12 ساعة تلتها رحلة أخرى طويلة عبر المواصلات العامة من ناريتا إلى شينجوكو. انفتح الباب بعد محاولة أو اثنتين لنجد أمامنا سيدة ترتدي ملابس النوم وابنتها تشخصان إلينا بذهول. عندها أدركنا أننا في المكان الخطأ!

ولكن بدلا من أن تصيح فينا مهددة بإبلاغ الشرطة، ما كان من المرأة وابنتها إلا أن أمضيتا عشرين دقيقة تحاولان مساعدتنا في العثور على المكان الصحيح، كل هذا ونحن لا نفقه كلمة باليابانية ولا هم بالإنجليزية. وبعد أن باءت كافة المحاولات بالفشل تقدمتا لنا باعتذار رسمي، ونحن الأغراب الذين اقتحموا بيتهم دون سابق إنذار!

ووسائل الاعتذار في اليابان شتى، ولا تقل عن عشرين وسيلة بحسب بحث لبي بي سي. فالسيدة التي اقتحمنا عليها شقتها استعانت بتعبير “غومين-ناساي” الأكثر رصانة، غير أن الأكثر شيوعا هي عبارة “سومي ماسين” التي كانت ذات فائدة بالغة بالنسبة لي خلال تلك الرحلة، وتترجم بمعنى استماحة العذر ويتردد صداها في كل مكان تقريبا.

تقول لوري إنوكوما، الحاصلة على درجة علمية في دراسة اللغة اليابانية من جامعة كورنيل وقد عملت بالخطوط الجوية اليابانية طيلة خمسة عشر عاما، إن تعبير “سومي ماسين” أشمل نطاقا من “أريغاتو”.

وتشرح إنوكوما قائلة: “10 في المئة من استخدامات ‘سومي ماسين’ تكون للاعتذار فعلا، والبقية لإظهار الاحترام والتأدب والأمانة. إنه تعبير شائع تبادل به من يقدم لك خدمة بسيطة كأن يفسح لك الطريق بمتجر البقالة، أو ينتظر عند الباب لحين خروجك”.

وتعبر “سومي ماسين” عن تقدير ما بذله شخص ما في سبيل راحتك، لتنم إما عن الاعتذار أو الامتنان حسب الموقف، حسبما تقول إنوكوما.

توافق الرأي نيمي لونغهيرست، اليابانية-البريطانية مؤلفة كتاب “بالياباني” الذي يشرح كيف تساعد التقاليد اليابانية في حياة أكثر مراعاة للآخرين.

وتقول لونغهيرست: “إنها ثقافة اعتذار، وثقافة مراعاة للآخرين. أذكر حين التقت عمتي البريطانية سيدة يابانية بأحد المؤتمرات ودعتها لعشاء مع الأسرة، وحينما جاءت المرأة اليابانية اصطحبت معها هدايا صغيرة منمقة احضرتها من اليابان، وأهدتها لنا فردا فردا، دون أن تغفل حتى أخي وأختي اللذين يصغرانني كثيرا، كل هذا رغم أنها تلقت دعوة مفاجئة ولكنها سبقت بالاستعداد بهدايا من اليابان، وبلفافات للتنميق على سبيل الاحتياط. لقد كان أمرا لا يصدق!”

وقد ظهر هذا التأدب الياباني بأبهى صوره خلال كأس العالم هذا العام، فحينما خسرت اليابان مباراتها النهائية، تصدر الفريق الياباني الأخبار بعدما انتهى بالكامل من تنظيف غرفة خلع الملابس، وترك رسالة شكر للعاملين فيها قبل المغادرة.

وفي اليابان تأتي عبارات الاعتذار لتلطف من أجواء الحياة المزدحمة، فالزائر لطوكيو يرى أمواجا بشرية تصطف بأدب لأميال وأميال للوصول إلى حديقة شينجوكو غيون وباتجاه نهر ناكاميغورو في موسم إزهار الكرز، في بلد يضم بعض أكثر مدن العالم ازدحاما، حيث 93,93 في المئة من السكان يعيشون في الحضر.

وتصل كثافة السكان في طوكيو على سبيل المثال إلى ستة آلاف و150 فردا للكيلومتر المربع، مقارنة بخمسة آلاف و729 في لندن (بما في ذلك ضواحي طوكيو الممتدة – ويتركز أكثر السكان بوسط مدينة طوكيو الكبرى ذات التجمع الحضري الأكبر في العالم، وينتقل إليها من خارجها 2,4 مليونا إضافيين يوميا).

ونصيب المرء من المساحة لا يتجاوز في المتوسط 22 مترا مربعا بمختلف مدن البلاد، ليتدنى إلى 19 مترا مربعا في طوكيو – وهو ما أدركناه دون شك خلال الرحلة عبر إقامتنا بشقق سكنية لم تختلف أي منها عن الأخرى في نظافتها وترتيبها الفائق، ومساحتها متناهية الصغر.

وحين يعيش الفرد بهذا القرب من الآخرين وتصبح المساحة الشخصية كنزا ثمينا، فلا غرو أن يبدي ما أمكنه من مراعاة واعتبار.

وتؤكد لونغهيرست هذا الاحترام لمساحة الآخرين، وتقول: “لابد من خلع الأحذية قبل الدخول إلى أي منزل في اليابان علامة على الفصل بين الخارج والداخل. ودائما ما يكون لسان حال المرء هو ‘عذرا للمضايقة لاقتحام مساحتك الخاصة’، وهو ما يعبر عنه بالقول ‘ميواكو’!”

لكن هذا التأدب حتى النخاع ليس فحسب استجابة لضيق المكان، فحتى خارج المدن وفي سكون الجبال التي تعرف بجبال الألب اليابانية، وجدنا الناس أكثر تأدبا.

فخلال تنزهنا بوادي كاميكوتشي الأخاذ بين التلال، والذي لا يمكن الوصول إليه في الموسم إلا سيرا على الأقدام طيلة ساعتين مضنيتين تقطعهما الحافلات في عشر دقائق، كدنا نبكي تأثرا حين عرض أحد العاملين إرجاعنا بالسيارة!

وقبل يوم من ذلك، نسيت هاتفي بالحافلة التي أقلتني إلى فندق أوكوهيدا التقليدي ولم انتبه لساعات حتى جاء سائق الحافلة ليسلمه باليد بعد أن حرص على تتبعه عبر رقم خاص وتطبيق خاص أوصله على مكان نزولي بالفندق.

تشرح لونغهيرست في كتابها العلاقة بين ثقافة اليابان الحديثة وإرث الماضي، ومن ثم ثقافة الاعتذار والآداب العامة التي تنبع من الانتباه للمحيط الخارجي، والصلة بين الذات والطبيعة.

تقول لونغهيرست: “في مراسم تقديم الشاي مثلا ينصب الاهتمام على الوعي بحركة الفرد في إطار زمني معين، فالأمر لا يتوقف عند مجرد صب الشاي بل يتجاوزه لتنسيق الزهور بالركن القريب المرتبط بموسم الازهار، وبنقش الكتابة اليابانية على الحائط لتحديد أي وقت من العام هذا؛ ومن ثم فالهدف هو مراعاة الزمن، وكيف ينعكس على تعامل البشر بعضهم مع البعض”.

ويشهد على ذلك انتشار أماكن تقديم الشاي بالمقاصد السياحية في اليابان. شعرنا بذلك في كيوتو ونحن نحتسي الشراب ونطل بأعيننا من كوة خلف أشجار الخيزران، بينما وراءها حشود البشر يلتقطون صور “السيلفي” بعصيان امتدت لهواتفهم في بستان أراشياما. عندها تنفسنا الصعداء هدوءا بعد جولة من المشاهدات الممتعة.

وبعودتنا إلى طوكيو وجدنا صاحب حانة بار هاي فايف، هيدتسوغو أوينو يؤكد الارتباط بين الاعتذار والوعي الياباني باللحظة، وإن أضاف أن الأمر يرتبط أيضا بنوع من التعاطف مع الآخرين، قائلا: “طبعا لا نحب الاعتذار اعتباطا، ولكن حين نفكر فيما لو كنا مكان الآخرين، فإننا نشعر بهم ونود الإعراب عن ذلك”.

إن الوعي باللحظة يعني الوعي بالآخرين المشاركين في اللحظة، وينبع الاعتذار من القدرة على فهم ما يشعر به الآخرون.

وينعكس ذلك على تدني معدلات الجريمة في المجتمع الياباني وتدني معدلات جرائم القتل لأقلها عالميا.

يقول أوينو: “تقع جرائم في اليابان، فلسنا رهبانا، ولكن الياباني عادة إن رأى حافظة نقود ملقاة في الشارع سيحضرها للشرطة، فنحن نعرف مدى معاناة فقد الحافظة وحين نتخيل أنفسنا في الموقف نجدنا نتصرف وفقا لذلك، وهو شيء نتعلمه منذ الطفولة بالمدرسة”.

ولا يعرف ما إذا كانت ثقافة التعاطف نابعة من الأخلاق أم الأخلاق نابعة من التعاطف. جدير بالذكر أن الأطفال يتعلمون بالمدارس اليابانية “التربية الأخلاقية” بين المنهج الدراسي منذ عام 1958 التي تركز على قيم التعاون والنفع المشترك التي يعتقد أنها نابعة من ثقافة الساموراي.

وتشرح لونغهيرست ذلك بالقول: “إن ذلك يعود أيضا إلى الرغبة في الحفاظ على آليات التحرك الجماعي وأهمية البذل من أجل النفع العام”، وليس أدل على ذلك مما عرف بمجموعة الخمسين في فوكوشيما، حين بقيت مجموعة من العمال الأكبر سنا بمحطة فوكوشيما النووية لإصلاح ما لحق بها من أضرار جراء التسونامي الذي وقع عام 2011.

لا شك أن الاعتذار دواء لكل داء في اليابان، ولغة عامة تعكس الثقافة الأشمل لتلك البلاد. وكلمة “آسف” بمختلف تعبيراتها نافذة تطل على دهاليز الأدب والاحترام والخلق يشرحها جزئيا واقع العيش في جزر مزدحمة وقاعدة أن يعامل المرء الآخرين كما يحب أن يعاملوه.

تقول إنوكوما: “تعقيدات الثقافة واللغة تتشابك فيما بينها، فزوجي يقول إن الأدب والاحترام أمران يسريان في دم الياباني”.

أما أنا فأرى أن أوينو لخص الأمر أبلغ تلخيص حين قال إن الناس “يجب أن يتحلوا بالصدق والعطف والإخلاص. وينبغي أن يكونوا على هذا النحو، أليس كذلك؟”

شاركها

اترك تعليقاً