الوفاء في الإسلام

مفهوم – الوفاء بالعهد فضيلة من الفضائل التي أكدها الإسلام وحث عليها ورغب فيها، وإنما قلنا من الفضائل التي أكدها الإسلام؛ لأن الوفاء من السجايا الكريمة المركوزة في الفطرة السليمة النقية، وحقيقة الوفاء أن تؤدي ما التزمت به نحو الله تعالى ونحو نفسك ونحو أهلك وعشيرتك؛ بل نحو الناس أجمعين أداءً كاملاً غير منقوص .

أما فضله: فإن الوفاء وليد الأمانة وعنوان الصدق ودليل الشجاعة والصبر وقوة الاحتمال، وإن الوفاء لا يوجد إلا حيث توجد الجرأة والصراحة والشجاعة والصبر على ما يكلف به؛ فربما كلفك الوفاء بالعهد أعز ما تملك .

الوفاء في القرآن الكريم :ــ

إن القرآن الكريم يأمر بالوفاء بالعهد، ويؤكد الأمر به، ويعظم شأنه، ويكبر الموفين، وينهى عن الغدر، ويشتد في النهي عنه، ويقبحه، ويلعن الغادرين. من يتدبر آيات القرآن يجد العهد فيما ضربين:

 العهد العام، والعهد الخاص.

فأما العهد العام:ــ

فهو أداء الواجب الذي يقتضيه عمل الإنسان، فمن تولى عملًا فقد عاهد أن يفي به على الوجه الأكمل، فإذا لم يفعل فقد خالف العهد، ومن آمن بدين فقد عاهد أن يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه، فإن لم يفعل فقد نقض العهد، ومن دخل في جماعة فقد عاهدها على أن ينفعها ولا يضرها، فإن ضرها أو قصر في نفعها فقد غدر، ومن تصدى للدفاع عن أرض أو جماعة أو عقيدة فقد عاهد ألا يألو جهدًا في الدفاع، فإن نكص فقد خان، ومن أوتي علمًا حقًّا فكأنه عاهد أن يبينه للناس ليهتدوا به، فإن كتمه فقد خان بعهده، وهكذا. نقرأ في الكتاب الكريم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِين} [آل عمران: 81]، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]، {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب: 8] .

فهذه مواثيق عامة تضمنتها رسالة الأنبياء وعلم الذين أوتوا الكتاب، كأن النبوة عهد على الوفاء بما تقتضيه الرسالة من الدعوة والإصلاح والنصب، واحتمال الأذى الصبر، وكأنها عهد على أن ينصر النبيون الحق وينصروا من جاء به. وكذلك العلم الذي حمل أهل الكتاب أمانته، هو عهد عليهم أن يعلِّموه الناس، ويظهروه غير مبالين ما ينفعهم وما يضرهم في إظهاره، وكذلك كل من عرف حقًّا وهُدى إلى معرفة، وكل من ولي ولاية للناس، وكل من وكل إليه عمل، كل هؤلاء كأنهم عاهدوا الله والناس على أن يُعرِّفوا الناس ما عرفوا، وأن يؤدوا أعمالهم على الوجه الأحسن. ومن ذلك قول القرآن الكريم في وقعة الأحزاب: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]، {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 24]. فهذا العهد هو ما التزمه المسلمون حين قبلوا الإسلام من القيام بفروضه، ونصرته والدفاع عنه، والاستماتة في تأييده.

 العهد الخاص:

معاهدة رجلين أو فريقين على أن يسالم بعضهم بعضًا، وخشي بعضهم بعضًا. وقد حث القرآن على الوفاء بالعهد كله وبالغ في الأمر به، يقول في سورة الأنعام: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152]، وفي سورة الإسراء {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]، وفي سورة النحل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. وفي سورة النحل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91]، {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 92]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 93]، {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94]، {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [النحل: 95].

يأمر الله سبحانه في هذه الآيات الجامعة بالعدل والإحسان، وصلة الأرحام، وينهى عن الفحشاء وكل منكر، وعن البغي على الناس، وهذا أمر بكل خير، ونهي عن كل شر. ثم يخص الوفاء بالعهد، فيأمر به ويسميه عهد الله، وكل عهد بين اثنين يسمى عهد الله؛ لأن الله رقيب على أعمال الناس، وقد أمرهم بأن يصدقوا ويحسنوا ويفوا بالعهود، ولأن العهد قسم بالله، وشهادة لله على الوفاء، وأكد الأمر بقوله: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}. فالإنسان حين يعاهد يشهد الله على عهده، ويجعل الله كفيلًا عليه بالوفاء، فكيف تنقض صفقة تكفَّل بها الله؟

وبين أن نقض العهد من الكبائر.
قال تعالى عن الفاسقين: ﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 27].

الوفاء في السنة النبوية:ـ

فقد وردت أحاديث تأمر بالوفاء بالعهد، وتبين حقيقة الغدر، وتنهى عنه، وهي كثيرة، منها: – عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية، وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون، وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر. فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة، ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء)).

فرجع معاوية . (ومعنى قوله ينبذ إليهم على سواء، أي: يعلمهم أنَّه يريد أنَّ يغزوهم، وأنَّ الصلح الذي كان بينهم قد ارتفع، فيكون الفريقان في ذلك على السواء. وفيه دليل على أنَّ العهد الذي يقع بين المسلمين وبين العدو، ليس بعقد لازم لا يجوز القتال قبل انقضاء مدته، ولكن لا يجوز أن يفعل ذلك إلا بعد الإعلام به والإنذار فيه) .

– وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلَّى الصبح، فهو في ذمة الله، فلا تخفروا الله في عهده، فمن قتله، طلبه الله حتى يكبَّه في النار على وجهه).(أي في عهده وأمانه في الدنيا والآخرة، وهذا غير الأمان الذي ثبت بكلمة التوحيد، ((فلا تخفروا الله في ذمته)) قال في النهاية: خفرت الرجل: أجرته وحفظته. وأخفرت الرجل: إذا نقضت عهده وذمامه) .

وحذر النبي صلي الله عليه وسلم من عدم الوفاء بما أعلن الإنسان الالتزام به، أو قطعه على نفسه، من عهدٍ أو ميثاق، سواء فيما بينه وبين الله تعالى، أو فيما بينه وبين الناس.

وبين أن نقض العهد من صفات المنافقين …
روى الشيخانِ عن عبدالله بن عمرو بن العاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربعٌ من كنَّ فيه، كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصلة (صفة) منهن، كانت فيه خَصلة مِن النفاق حتى يدَعَها (يتركها): إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذَب، وإذا عاهد غدَر (ترك الوفاء بالعهد)، وإذا خاصَم فجَر))؛ (البخاري ومسلم ).

وبين خطورة الغدر يوم القيامة ..

فروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة، يُرفع لكلِّ غادرٍ لواءٌ، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان)) . قوله ((لكل غادر لواء)) قال النووي: (معناه لكل غادر علامة يشهر بها في الناس؛ لأنَّ موضوع اللواء الشهرة مكان الرئيس علامة له، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر؛ لتشهيره بذلك) .

وقال القرطبي: (هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل؛ لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء؛ ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر؛ ليشتهر بصفته في القيامة فيذمه أهل الموقف) .

وروى أحمدُ عن رفاعةَ بن شدادٍ، قال: كنتُ أقوم على رأسِ المختار، فلما عرفتُ كذِبَه، همَمْتُ أن أسُلَّ سيفي فأضربَ عنقه، فذكرتُ حديثًا حدثناه عمرُو بن الحمق، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن أمَّن رجلًا على نفسه، فقتَله، أُعطيَ لواءَ الغدرِ يوم القيامة))؛ (حديث صحيح) .

ونفي الدين عن الغادر وناقض العهد ..

روى أحمد عن أنس بن مالكٍ قال: ما خطبنا نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: (لا إيمانَ لمن لا أمانة له، ولا دِينَ لمن لا عهد له) (حديث صحيح) .

وبين صلي الله عليه وسلم أثر نقض العهد علي الأمة …

روى الحاكم عن بُريدة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(ما نقَض قومٌ العهدَ قط، إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرتِ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ، إلا سلَّط الله عليهم الموت، ولا منَع قومٌ الزكاةَ، إلا حبس اللهُ عنهم القَطْرَ) (حديث صحيح) .
وقد تبرد حرارة الوفاء فيتلاشى أو يضعف بالموت أو بالغياب الطويل؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وفاؤه للميت كوفائه للحي على السواء؛ فقد روي أنه كانت تأتيه المرأة فيبش في وجهها ويكرمها وربما أعطاها الشاة كلها أو يعطيها معظم أعضائها؛ فتقول له عائشة – رضي الله عنها – : يارسول الله! من هذه المرأة؟ أتعرفها؟ فيقول – عليه الصلاة والسلام – : “أنها كانت تأتينا أيام خديجة” يعني أنها من صويحبات خديجة “وإن حسن العهد من الإيمان”، ومن أعظم الأدلة على وفائه لزوجه خديجة – رضي الله عنها – ما رُوِيَ في الصحيح أن عائشة – رضي الله عنها – أخذتها الغيرة من كثرة ذكره لخديجة – رضي الله عنها – وثنائه عليها فقالت له يومًا يارسول الله: تقول خديجة .. خديجة – وهل كانت إلا عجوزًا أبدلك الله خيرًا منها؛ فتألم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهر ذلك على وجهه وقال: “ما أبدلني الله خيرًا منها”، ثم جعل يعدد ما امتازت به زوجه خديجة على غيرها من المآثر والفضائل فقال: “لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد؛ فلا والله ما أبدلني الله خيرًا منها” فأخذت بذلك عائشة – رضي الله عنها – درسًا ألا تذكرها بعد ذلك أبدًا بدافع الغيرة.

إن من أروع ما سجله التاريخ في صفحات أمجاد الإسلام هذه الصورة الرائعة الناطقة بالوفاء حتى في أحرج المواقف.

فقد جيء بالهرمزان زعيم الفرس أسيرًا إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ فلما كان هذا الزعيم الفارس بين يديه عرض عليه الخليفــة الإسلام فأبى. وقال يا أمير المؤمنين: إنما أعتقد ما أنا عليه، قال له عمر: إذاً تُقْتَلُ. فلما جيء بالسيف قال يا أمير المؤمنين: شربة ماء خير من قتلي على ظمأ. فسمح له عمر بشربة الماء فلماجاءه الماء تناوله وقال: أأنا آمن حتى أشرب الماء؟ قال: نعم لك الأمان حتى تشرب الماء. فأخذ الرجل الداهية الماء وسكبه على الأرض، وقال: يا أمير المؤمنين: الوفاء نور أبلج. قال عمر: نعم ولك التوقف عن قتلك والنظر في أمرك. وعرف الرجل يقينًا أن دين عمر هو الذي ألزمه الوفاء في مثل هذا الموقف فقال: الآن أعلن إسلامي طائعًا وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول لله، وأسلم بصدق؛ فقال عمر: ويحك لقد أسلمت خير إسلام فما الذي أخرك؟ قال يا أمير المؤمنين: أحببت ألا يُقال إني أسلمت جزعًا. وكان بعد ذلك من خيرة القادة الذين يستشيرهم عمر في الحروب.

أقوال السلف والعلماء في الوفاء :ــ

قال الأصمعي: (إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوُّقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه) .

– وقال الحريري: (تعامل القرن الأول فيما بينهم بالدين زمانًا طويلًا حتى رقَّ الدين، ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء، ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة) .

– وقال بعض الحكماء: (من لم يفِ للإخوان، كان مغموز النسب) . – وقال ابن حزم: (إنَّ من حميد الغرائز وكريم الشيم وفاضل الأخلاق… الوفاء؛ وإنَّه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات… وأول مراتب الوفاء أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب… لا يحول عنه إلا خبيث المحتد، لا خلاق له ولا خير عنده) .

– وقال أيضًا: (الوفاء مركب من العدل، والجود، والنجدة؛ لأنَّ الوفي رأى من الجور أن لا يقارض من وثق به، أو من أحسن إليه؛ فعدل في ذلك، ورأى أن يسمح بعاجل يقتضيه له عدم الوفاء من الحظ؛ فجاد في ذلك، ورأى أن يتجلَّد لما يتوقَّع من عاقبة الوفاء؛ فشجع في ذلك) .

– وعن عوف بن النعمان الشيباني أنه قال في الجاهلية الجهلاء: (لأن أموت عطشًا، أحبُّ إليَّ من أكون مخلاف الموعدة) – وعن عوف الكلبي أنه قال: (آفة المروءة خلف الموعد) . – (وقالت الحكماء: لا شيء أضيع من مودة من لا وفاء له، واصطناع من لا شكر عنده، والكريم يودُّ الكريم عن لُقْية واحدة، واللئيم لا يصل أحدًا إلا عن رغبة أو رهبة) .

أقسام الوفاء : العهد نوعان:ــ

1ـ عهد مع الله عزَّ وجلَّ:ـ

فإنَّ الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف: 172].
وقال تعالي } أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) { يس .
فقد أخذ الله العهد على عباده جميعًا، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا؛ لأنَّه ربهم وخالقهم.

2ـ وعهد مع عباد الله:ـ

ومنه العهود التي تقع بين الناس، بين الإنسان وبين أخيه المسلم، وبين المسلمين وبين الكفار وغير ذلك من العهود المعروفة، فقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد، فقال عزَّ وجلَّ: وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء: 34] . يعني أنَّ الوفاء بالعهد مسؤول عنه الإنسان يوم القيامة، يسأل عن عهده هل وفَّى به أم لا؟ قال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ [النحل:91] يعني ولا تخلفوا العهد) .

صور الوفاء:ـ

– الوفاء بالعهد الذي بين العبد وربه:ـ

(فالعهود التي يرتبط المسلم بها درجات، فأعلاها مكانة، وأقدسها ذمامًا، العهد الأعظم، الذي بين العبد وربِّ العالمين، فإنَّ الله خلق الإنسان بقدرته، وربَّاه بنعمته، وطلب منه أن يعرف هذه الحقيقة، وأن يعترف بها، وألا تشرد به المغويات، فيجهلها أو يجحدها، قال تعالى:} أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ{ [يس: 60]) .

– الوفاء في سداد الدين:ـ

اهتمَّ الإسلام بالدَّيْن؛ لأنَّ أمره عظيم، وشأنه جسيم، وقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم على قضاء الدين، وكان لا يصلي على الميت إذا كان عليه دين حتى يُقضى عنه. وقد قال صلي الله عليه وسلم:(من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها، أتلفه الله) (البخاري) .

وهذه قصة عجيبة في الوفاء بسداد الدين ….

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنه ذكر رجلًا من بني إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينارٍ، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدًا، قال: فأْتِني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلًا، قال: صدقتَ، فدفعها إليه إلى أجلٍ مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس (أي طلب) مركَبًا يركبها يقدَمُ عليه للأجل (وقت الوفاء لسداد الدين) الذي أجله، فلم يجد مركَبًا، فأخذ خشبةً فنقَرها (أي حفرها)، فأدخل فيها ألف دينارٍ وصحيفةً منه إلى صاحبه، ثم زجَّج موضعها (أي سوَّى موضع النقر)، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلَّفت فلانًا ألف دينارٍ، فسألني كفيلًا، فقلت: كفى بالله كفيلًا، فرضي بك، وسألني شهيدًا، فقلت: كفى بالله شهيدًا، فرضي بك، وإني جهدت (أي بذلت وسعي) أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له، فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت (دخلت) فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركَبًا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه، ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينارٍ، فقال: والله ما زلتُ جاهدًا في طلب مركبٍ لآتيك بمالك، فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنتَ بعثت إلي بشيءٍ؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثتَ في الخشبة، فانصرف بالألف الدينار راشدًا)  (البخاري .

– الوفاء بشروط عقد النكاح:ـ

قال صلى الله عليه وسلم: (أحقُّ الشروط أن توفوا به، ما استحللتُم به الفروج) . قال الخطابي: (الشروط في النكاح مختلفة؛ فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقًا، وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث، ومنها ما لا يوفى به اتفاقًا، كسؤال طلاق أختها… ومنها ما اختلف فيه، كاشتراط أن لا يتزوج عليها، أو لا يتسرى، أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله) .

– الوفاء بين الزوجين:ـ

الوفاء بين الزوجين، يجعل الأسر مستقرة، والبيوت مطمئنة، فيكون رابط الوفاء بينهما في حال الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر.

– الوفاء بإعطاء الأجير أجره:ــ

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقه)) . روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله: ثلاثةٌ أنا خَصمُهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدَر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنَه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطِ أجره) (البخاري).

– وفاء العامل بعمله:ـ

وذلك بأن يعمل العامل، ويعطي العمل حقه باستيفائه خاليًا من الغش والتدليس، فعن عاصم بن كليب الجرمي قال: حدثني أبي كليبٌ ((أنَّه شهد مع أبيه جنازة شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا غلام أعقل وأفهم، فانتهى بالجنازة إلى القبر، ولم يمكن لها، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سووا لحد هذا. حتى ظن الناس أنه سنة، فالتفت إليهم، فقال: أما إنَّ هذا لا ينفع الميت ولا يضرُّه، ولكن الله يحبُّ من العامل إذا عمل أن يحسن)) .

– الوفاء بالنذر:ــ

قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).ويجب الوفاء بالنذر إذا كان نذر طاعة.

– الوفاء بما التزم به من بيع أو إجارة:ـ

(الوفاء بما التزم به من بيع أو إجارة، وغير ذلك من المعاملات المالية ما دامت مشروعة، يقول تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وسواء كانت هذه العقود مبرمة بين المسلم والمسلم، أو المسلم وغير المسلم) .
قال تعالي }لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8){ الممتحنة.

وفاء الولاة والأمراء بالعهود والمواثيق في علاقاتهم مع الدول:ــ

وقد دلَّت على ذلك عمومات النصوص، وأكَّد الرسول صلى الله عليه وسلم على احترام الأحلاف المعقودة في الجاهلية، وقال صلى الله عليه وسلم مؤكِّدًا على ضرورة الوفاء بأحلاف الجاهلية:(أوفوا بحلف الجاهلية فإنه لا يزيده يعني الإسلام إلا شدة)) . وظلَّ تاريخ الإسلام منذ فجر عهده، وعلى مرِّ مراحله التاريخية، صفحة بيضاء نقية، لم يدنَّس بخيانة، ولا غدر، ولا نقض عهد، بدون وجود ناقض من العدو . قال النووي: (واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب وكيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل) .

الآثار المترتبة علي الالتزام بخلق الوفاء:ـ

الآثار المترتبة على الالتزام بالعهد والميثاق متنوعة ومتعددة، فهناك الآثار التي تخص الفرد وأخرى تعم الجماعة، بعضها في الحياة الدنيا، وأخرى يوم القيامة، فمن هذه الآثار:ـ
1- الإيمان:ـ

وردت آيات كثيرة تنفي الإيمان عن الناقضين لعهدهم، وتصفهم بالكفر… وفي المقابل وصف الله سبحانه وتعالى الموفين لعهدهم ومواثيقهم بالإيمان، قال تعالى: وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الحديد: 8].
2- التقوى:ـ

التقوى أثر من آثار الوفاء بعهد الله، وثمرة من ثمرات الالتزام بميثاقه، قال تعالى:(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 63].
3- محبة الله:ـ

أثبت الله محبته للمتقين الموفين بعهدهم، المستقيمين على عهودهم ومواثيقهم حتى مع أعدائهم ما استقاموا هم على تلك العهود، قال تعالى: }فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ{ [التوبة: 7].

4- حصول الأمن في الدنيا، وصيانة الدماء: لم تقتصر آثار الوفاء بالعهد والميثاق على المسلمين وحدهم، وإنما شمل عدل الله، الكفار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام، ولهم عهود مع المسلمين، فجاءت الآيات صريحة بوجوب الوفاء لهم وصيانة دمائهم.

5- حصول الأجر العظيم: فقد وعد الله الموفين بعهدهم بجزاء عظيم، قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) [الأحزاب: 23-24]. وقال تعالي :} وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا{ [الفتح: 10].

6- دخول الجنات: فقد ورد في أكثر من آية جزاء من وفَّى بعهده، والتزم بميثاقه، وهو الوعد بدخول الجنة، قال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] قال ابن جرير: وعهده إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة .
وقال تعالي }إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111) { التوبة.

صور من الوفاء :ـ 

وفاء النبي صلى الله عليه وسلم:ــ إنَّ الوفاء بالعهد، وعدم نسيانه أو الإغضاء عن واجبه، خلق كريم، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالمحل الأفضل والمقام الأسمى، والمكان الأشرف، فوفاؤه…كان مضرب المثل، وحقَّ له ذلك، وهو سيد الأوفياء .
ويتجلى لنا وفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في صور كثيرة منها:ــ وفاؤه صلى الله عليه وسلم بالعهد لعدوه: ـ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفي بالعهود والمواثيق التي تكون بينه وبين أعداء الإسلام. (فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرسولي مسيلمة الكذاب لما قالا: نقول: إنه رسول الله (لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما)) .
وثبت عنه أنه قال لأبي رافع، وقد أرسلته إليه قريش، فأراد المقام عنده، وأنه لا يرجع إليهم فقال:(إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إلى قومك، فإن كان في نفسك الذي فيها الآن فارجع). وثبت عنه أنَّه ردَّ إليهم أبا جندل للعهد الذي كان بينه وبينهم، أن يردَّ إليهم من جاءه منهم مسلمًا) . – وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل. قال: فأخذنا كفار قريش. قالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفنَّ إلى المدينة، ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر. فقال: (انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) .
وروى مسلمٌ عن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ، أو سريَّةٍ، أوصاه في خاصتِه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: (اغْزُوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا مَن كفر بالله، اغزوا ولا تغُلُّوا، ولا تغدِروا (أي: ولا تنقُضوا العهد)، ولا تُمَثِّلوا (أي: لا تشوِّهوا القتلى)، ولا تقتلوا وَلِيدًا (أي: صبيًّا)، وإذا لقيتَ عدوَّك من المشركين، فادعُهم إلى ثلاثِ خصالٍ، فأيَّتهنَّ ما أجابوك، فاقبَلْ منهم، وكُفَّ عنهم، ثم ادعُهم إلى الإسلام) (مسلم ) وفاءه صلى الله عليه وسلم لزوجاته: ــ فمن وفائه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، أنه كان يكرم صديقات زوجته خديجة رضي الله عنها بعد موتها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالشيء يقول: (اذهبوا به إلى فلانة؛ فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا به إلى بيت فلانة؛ فإنها كانت تحب خديجة). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها؛ وما ذاك إلا لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليذبح الشاة فيتتبع بها صدائق خديجة؛ فيهديها لهنَّ) . ب . نماذج من وفاء الصحابة رضي الله عنهم:ــ لقد وفى أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعهود والمواثيق، والتزموا بالمبايعات التي أخذها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته في عدة مناسبات، وهذه هي العهود والمواثيق التي ذكرها الله في أكثر من آية، حيث خصَّ بعضها بالذكر كبيعة الرضوان،… وأخذ عليهم العهد في بيعتي العقبة، وبيعة الرضوان، وبايعهم على الإسلام، وبايع النساء بيعة خاصة، كما بايع بعض صحابته على الجهاد، وبايع آخرين على السمع والطاعة، وبايع بعضهم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم…
ومما يجدر التنبيه إليه هنا، ما ذكره سبحانه في سورة الأحزاب، مادحًا أصحاب تلك العهود والمواثيق ومثنيًا عليهم: }مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً{ [الأحزاب: 23] نعم لقد وَفى صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهودهم، والتزموا مواثيقهم، ولم يكونوا كبني إسرائيل الذين أصبحت الخيانة والغدر من سماتهم، وأبرز سجاياهم وطباعهم. لقد كان من وفاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أحدهم يسقط سوطه وهو راكب على دابته، فينزل ليأخذ سوطه ولا يطلب من أحد أن يناوله؛ لأنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يسأل الناس شيئًا أعطوه، أو منعوه. هذه هي الطاعة، وهذا هو الوفاء، وبمثل هؤلاء تسعد البشرية وتصل إلى مدارج الرقي وسمو الأخلاق، لقد كان جيلًا قرآنيًّا فذًّا، لم تعرف البشرية جيلًا كذلك الجيل، ولا صفوة كتلك الصفوة أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر: 18]) . ج . وفاء أبي بكر رضي الله عنه: ــ وفاؤه بديون النبي صلى الله عليه وسلم ووعوده: ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قد جاء مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا ثلاثًا، فلم يقدم مال البحرين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم على أبي بكر أمر مناديًا فنادى من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو عدة فليأتني، قال جابر: فجئت أبا بكر فأخبرته أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا ثلاثًا، قال: فأعطاني. قال جابر: فلقيت أبا بكر بعد ذلك فسألته فلم يعطني ثم أتيته فلم يعطني، ثم أتيته الثالثة فلم يعطني، فقلت له: قد أتيتك فلم تعطني ثم أتيتك فلم تعطني ثم أتيتك فلم تعطني، فإما أن تعطيني، وإما أن تبخل عني، فقال: أقلت تبخل عني، وأي داء أدوأ من البخل؟- قالها ثلاثًا – ما منعتك من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك)) . وفاؤه رضي الله عنه في إنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه:
قام أبو بكر رضي الله عنه، بتنفيذ جيش أسامة بن زيد، الذي قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليسير إلى تخوم البلقاء من الشام.
(فخرجوا إلى الجرف فخيموا به، وكان بينهم عمر بن الخطاب، ويقال: وأبو بكر الصديق، فاستثناه رسول الله منهم للصلاة، فلما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا هنالك، فلما مات عظم الخطب، واشتدَّ الحال، ونجم النفاق بالمدينة، وارتدَّ من ارتدَّ من أحياء العرب حول المدينة، وامتنع آخرون من أداء الزكاة إلى الصديق، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة، وكانت جواثا من البحرين أول قرية أقامت الجمعة بعد رجوع الناس إلى الحقِّ… وقد كانت ثقيف بالطائف ثبتوا على الإسلام، لم يفروا ولا ارتدوا، والمقصود أنه لما وقعت هذه الأمور، أشار كثير من الناس على الصديق أن لا ينفذ جيش أسامة؛ لاحتياجه إليه فيما هو أهم؛ لأنَّ ما جهز بسببه، في حال السلامة، وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب، فامتنع الصديق من ذلك، وأبى أشد الإباء، إلا أن ينفذ جيش أسامة، وقال: والله لا أحلُّ عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أنَّ الطير تخطَّفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أنَّ الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزنَّ جيش أسامة) . د . وأختم كلامي بهذه القصة الرائعة:ــ أتى شابَّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان في المجلس، وهما يقودان رجلاً من البادية فأوقفوه أمامه، قال عمر: ما هذا؟ قالا: يا أمير المؤمنين، هذا قتل أبانا، قال: أقتلت أباهم؟ قال: نعم قتلته، قال: كيف قتلتَه؟ قال: دخل بجمله في أرضي، فزجرته فلم ينزجر، فأرسلت عليه ‏حجرًا وقع على رأسه فمات، قال عمر: النفس بالنفس، لا بد أن تُقتل كما قتلت أباهما، وانظروا إلى سيدنا عمر لم يسأل عن أسرة هذا الرجل، هل هو من قبيلة قويَّة أو ضعيفة؟ هل هو من أسرة معروفة ولها أهميَّة في المجتمع؟ كل هذا لا يهم عمر رضي الله عنه لأنه لا يجامل أحدًا على حساب شرع الله، ولو كان ‏ابنه ‏القاتل لاقتصَّ منه. قال الرجل: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي رفع السماء بلا عمد ‏أن تتركني ليلة؛ لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية، فأُخبِرُهم ‏بأنك ‏سوف تقتلني ثم أعود إليك، والله ليس لهم عائلٌ إلا الله ثم أنا، قال عمر: مَن يكفلك أن تذهب إلى البادية ثم تعود إليَّ؟ فسكت الناس جميعًا؛ إنهم لا يعرفون اسمه ولا داره ‏ولا قبيلته، فكيف يكفلونه؟ وهي كفالة ليست على مائة دينار، ولا على عقار، ولا على ناقة، إنها كفالة على الرقبة أن تُقطع بالسيف. فسكت الناس وعمر مُتأثر؛ لأنه ‏وقع في حيرة، هل يقدم فيقتل هذا الرجل وأطفاله يموتون جوعًا هناك؟ أو يتركه فيذهب بلا كفالة فيضيع دم المقتول؟ وسكت الناس ونكَّس عمر ‏رأسه والتفت إلى الشابَّين: أتعفوان عنه؟ قالا: لا، مَن قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين، قال عمر: مَن يكفل هذا أيها الناس؟ فقام أبو ذر الغفاريّ بشيبته، وقال: يا أمير المؤمنين، أنا أكفله، قال عمر: هو قَتْل، قال: ولو كان قاتلاً! قال: أتعرفه؟ قال: ما أعرفه، قال: كيف تكفله؟ قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين فعلمت أنه لا يكذب، وسَيَفِي بعهده إن شاء الله، قال عمر: يا أبا ذر، أتظن أنه لو تأخَّر بعد ثلاث أني تاركك؟ قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين، فذهب الرجل وأعطاه عمر ثلاث ليالٍٍ، يُهيِّئ فيها نفسه، ويُودع ‏أطفاله وأهله، وينظر في أمرهم بعده ثم يأتي ليُقْتَص منه؛ لأنه قتل، وبعد ثلاث ليالٍ لم ينسَ عمر الموعد، وفي العصر ‏نادى ‏في المدينة: الصلاة جامعة، فجاء الشابَّان، واجتمع الناس، وأتى أبو ‏ذر ‏وجلس أمام عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال: ما أدري يا أمير المؤمنين! وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس، وكأنها تمرُّ سريعة على غير عادتها، وقبل الغروب بلحظات، إذا بالرجل يأتي، فكبَّر عمر وكبَّر المسلمون‏ معه، فقال عمر: أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك ما شعرنا بك ‏وما عرفنا مكانك. قال: يا أمير المؤمنين، والله ما عليَّ منك ولكن عليَّ من الذي يعلم السرَّ وأخفى، ها أنا يا أمير المؤمنين، تركت أطفالي كفراخ‏ الطير لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل، وخشيت أن يُقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس، فسأل عمر بن الخطاب أبا ذر: لماذا ضمنته؟ فقال أبو ذر: خشيت أن يُقال: لقد ذهب الخير من الناس، فوقف عمر وقال للشابَّين: ماذا تَرَيَان؟ قالا وهما يبكيان: عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه ووفائه بالعهد، وقالوا: نخشى أن يُقال: لقد ذهب العفو من الناس، قال عمر: الله أكبر، ودموعه تسيل على لحيته.

شاركها

اترك تعليقاً