مفهوم – يا لها من كلمة جامعة لكل خير! وقاعدة من قواعد بناء الخير ونشر المعروف! قاعدةٍ تدعو لأَن يبقى المسلمُ عضواً فاعلاً للخير، متحركاً إلى الإحسان، مبادراً إلى الطاعة، سبّاقاً إلى الفضائل، وأن لا يزهد عن خيرٍ مهما صغر في عينه، ولو كانت بابتسامة في وجه أخيه، أو يلقى أخاه بوجهٍ طَلْق، فإن عجز عن هذه وتلك، فليكف…
فقد أخرجمسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق.
وفي رواية عند أحمد من حديثأبي جري الهجيمي قال: أتيترسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنا قوم من أهل البادية فعلمنا شيئا ينفعنا الله تبارك وتعالى به، قال: لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وتسبيل الإزار فإنه من الخيلاء والخيلاء لا يحبها الله عز وجل، وإن امرؤ سبك بما يعلم فيك فلا تسبه بما تعلم فيه فإن أجره لك ووباله على من قال.شعيب الأرناؤوط إسناده صحيح.
وقد بين العلامة المناوي رحمه الله معنى هذا الحديث :
وهو يتضمن الرواية الأولى وزيادة، قال في كتابه فيض القدير: لا تحقرن: أي لا تستصغرن، يقال حقره واحتقره واستصغره، قال الزمخشري: تقول -أي العرب- هو حقير فقير هو حاقر ناقر، وفي المثل من حقر حرم، وفلان خطير غير حقير(من المعروف) أي ما عرفه الشرع والعقل بالحسن (شيئا) أي كثيرا كان أو حقيرا (ولو) قال الطيبي: هذا شرط يعقب به الكلام تتميما ومبالعة، وقال أبو حيان: هذه الواو لعطف حال على حال محذوفة بتضمنها السابق تقديره لا تحقرن من المعروف شيئا على كل حال كائنا ما كان ولو (أن تفرغ) بضم الفوقية وكسر الراء تصب يقال أفرغت الشيء صببته إذا كان يسيل(من دلوك) إنائك الذي تستسقي به من البئر (في إناء) أي وعاء (المستسقي): طالب السقيا يعني: ولو أن تعطي مريد الماء ما حزته أنت في إنائك رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف، وتقدم الأحوج فالأحوج، والدلو معروف ويستعار للتوصل إلى الشيء بأي سبب كان قال:
وليس الرزق في طلب حثيث **** ولكن ألق دلوك في الدلاء
(أن تلقى) أي ولو أن تلقى (أخاك) أي تراه وتجتمع به، وفي رواية لأبي داود بدله وأن تكلم أخاك أراد بالأخ المسلم وإن لم يكن ابن أحد أبويه، وقيل له أخوه لأنه لابسه من قبل دينه كما تقول للرجل: قل لصاحبك كذا لمن بينه وبينه أدنى ملابسة، وذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام ذكره الزمخشري وأصله للراغب حيث قال: هو المشارك لآخر في الولادة من الطرفين أو أحدهما أو الرضاع، ويستعار في كل مشارك لغيره في قبيلة أو دين أو صنعة أو معاملة أو مودة أو غيرها من المناسبات، ولَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ أي لمشاركتهم في الكفر وقوله: يَا أُخْتَ هَارُونَ يعني في الصلاح لا النسبة.( ووجهك) أي والحال أن وجهك إليه منبسط: أي منطلق بالسرور والانشراح.
قال حبيب بن ثابت:
من حسن خلق الرجل أن يحدث صاحبه وهو مقبل عليه بوجهه، ونظم هذا الحديث كنظم الجمان وروض الجنان. وفيه -كما قال الغزالي- رد على كل عالم أو عابد عبس وجهه وقطب جبينه كأنه مستقذر للناس أو غضبان عليهم أو منزه عنهم، ولا يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب ولا في الخد حتى يصعر ولا في الظهر حتى ينحني ولا في الرقبة حتى تطاطأ ولا في الذيل حتى يضم، إنما الورع في القلب، أما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بعبوس يمن عليك بعلمه فلا أكثر الله في المسلمين مثله، ولو كان الله يرضى بذلك ما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: <;وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
«لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا» كلمات نبوية مباركة تحوي- كما هو الشأن دائماً- الكثير من المعاني والإشارات، وتشهد لها الشواهد والوقائع والدلالات، ومفهومها واضح كمنطوقها: أنه لا ينبغي لعاقلٍ مُوَفَّق أن يحتقر شيئاً من المعروف ولو كان في ظنّه صغيراً، أو حقيراً ؛ فإنه لا يدري أيّ عملٍ سيقع موقع القبول والرضا، أيّ عمل سيرتفع به، أي عمل سيبلغ به؛ إذْ القبول من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله؛ فرُبَّ عمل ظنَّه العبد صغيراً تافهاً لا يرتفع به، فإذ به قد أوجب الله له به الجنان، وأعتق رقبته به من النيران، فكان فيه فوزه وسعادته، يقول ابن المبارك رحمه الله: (رُبَّ عمل صغير تُعظِّمه النيّة، ورُبَّ عمل كبير تُصغِّره النيّة)،
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله له به كبائر).والشواهد على ذلك كثيرة، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أعمالٍ لا تُعَدّ شيئاً في نظر الكثيرين، بل ربما احتقرها البعض؛ لصغرها، لكنّها لمّا وقعت في الميزان كانت كالجبال الرواسي فأوجبت لأصحابها القبول والرضوان، والنعيم في الجنان، ومن ذلك:
ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: « جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّ الله قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ».
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ؛ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي. فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ. قَالُوا يَا رَسُولَ الله: وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»
ومعلومٌ حديث الرجل الذي كان يصلي بأصحابه، فكان يفتتح – بعد الفاتحة – بـ (ِقُلْ هُوَ الله أَحَدٌ)حتى يَفْرُغ منها، ثمَّ يقرأُ بسورةٍ أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة ، فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، قال: إني أُحِبُّها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ حُبَّهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ »
وذكر ابن الجوزي رحمه الله في ترجمة سليمان بن داود المعروف بالشاذكوني عن إسماعيل بن طاهر البلخي قال: رأيت سليمان الشاذكوني في النوم، فقلت: ما فعل الله بك يا أبا أيوب؟ فقال: غفر الله لي. قلت: بماذا؟ قال: كنت في طريق أصبهان أَمُرّ إليها فأخذتني مَطْرَةٌ، وكانت معي كتب، ولم أكن تحت سقف ولا شيء، فانكببت على كتبي حتى أصبحت وهدأ المطر، فغفر لي الله بذلك. وغير ذلك كثير من الأحاديث والشواهد التي تؤكد على ما ذكرناه آنفاً.