مقهوم – هل تعلم ما يفعله خبراء العلوم السلوكية لتحسين طبيعة الحياة في المدن والمناطق الحضرية؟
“هل ترى إشارات المرور وهي تصطف في مجموعاتٍ على جانبي الطريق؟”، هكذا سأل الباحث في العلوم السلوكية في الهند آناند داماني، وهو يشير إلى تقاطع طرقٍ رباعي الاتجاهات يعج بالفوضى، وهو ينظر من شرفة مسكنه في مدينة مومباي. ففي هذا التقاطع، كانت السيارات متوقفةً، مما حال دون عبور المشاة الطريق، ليَعْلَقَ الجميع سواء المارة أو المركبات التي كان دورها قد حان للتحرك.
وفي تفسيره لهذه المشكلة، أشار داماني إلى أنه “ما من حاجة لمجموعتين من الإشارات في تقاطعٍ واحد. فحتى دون وجود إشارات متماثلة تضيء باللون نفسه على جانبي الطريق، سيتوقف قادة السيارات في المكان الصحيح الذي يُمَكنهم من رؤية إشارة المرور”.
ورغم بساطة هذه الفكرة فإنها فعالة في الوقت نفسه، إذ يمكننا من خلال إحداث تغييرٍ واحدٍ صغيرٍ، جعل السائقين الذين لا يتبعون قواعد المرور يتصرفون على نحوٍ صائب، حتى دون أن يعلموا ذلك أو يعوه.
لكن يتعين ألا ننسى هنا أن داماني هو خبيرٌ في مجاله، أو بالأحرى عالمٌ سلوكيٌ في بلد لا يزال هذا المجال يحتاج فيه إلى مزيد من الجهد لإقناع الحكومة بفوائده وأهميته.
وفي استعراضه لما ينطوي عليه هذا العلم من منافع، يقول داماني: “إنك لست بحاجة إلى توعية الناس (بسلوكياتهم الخاطئة) لكي تغير هذه التصرفات. فعوامل التحفيز والحث التي تعمل بشكل لا واعٍ وتتضمنها البيئة المحيطة، تؤتي أُكلها أيضاً. إننا نطلق على ذلك اسم التصميم السلوكي”، أو التصميم الذي يجري على نحوٍ يستهدف تغيير السلوك.
وفي عام 2013، أنشأ داماني – مع شريك له يُدعى مايور تيكتشانداني – شركةً تحمل اسم “بريف كَيس” تعمل في هذا المضمار. واستهدف المشروع الأول للشركة – والذي أُطلِقَ عليه اسم “بلييب” – إلى تقليل حجم مشكلة الضوضاء التي تعاني منها مومباي بسبب تفشي الاستخدام الصاخب لأبواق السيارات.
وكان الأسلوب الذي اتبع في هذا الصدد بسيطاً. فقد أجرى داماني وشريكه تجربة لمدة ستة أشهر، قاد خلالها عددٌ من الأشخاص – لمدة أسبوعٍ لكلٍ منهم – سيارات صممتها الشركة، وزودتها بجهازٍ شبيه بالجرس الكهربائي يضيء وينطفئ في كل مرة يضغط فيها السائق على البوق، ويتوجب على مستخدمه إغلاقه يدوياً.
ويُسجل الجهاز كذلك البيانات الخاصة باستخدام بوق السيارة، وذلك لأغراض الدراسة والتحليل. وكانت النتيجة تقليص السائقين استخدامهم للبوق بنسبة بلغت في المتوسط 61 في المئة، نظراً إلى أن الجهاز الجديد الذي زُوِدَتْ به سياراتهم شكّلَ مصدر إزعاج بالنسبة لهم.
ويصف داماني ذلك الجهاز بأنه بسيطٌ وعمليٌ ويشكل حلاً منخفض التكلفة لمشكلة كبرى تعاني منها المناطق الحضرية، ألا وهي التلوث السمعي. ويقول الخبير السلوكي الهندي: “ينبغي على الحكومة إلزام كل السيارات بتركيب جهاز ‘بلييب’ إذا أرادت تقليص مستويات الضوضاء في المدن. لقد بلغ بنا الأمر حد تركيبه في السيارات الرسمية الخاصة بمفوضية النقل المشترك في ولاية ماهاراشترا، لكن المسألة لم تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك”.
وإذا تركنا الهند وشأنها، سنجد أن دولاً أخرى في العالم، سارعت على نحوٍ أكبر بالاحتفاء بمفهوم التصميم السلوكي هذا، وعلى المستوى الحكومي كذلك. فلدى المملكة المتحدة على سبيل المثال، وحدةٌ ناجحةٌ ومستقرةٌ تختص ببلورة وإعداد “عوامل التحفيز والحث” تلك، وهي عبارةٌ عن شراكةٍ بين الحكومة والقطاع الخاص، تتمثل في ما يُعرف بـ”فريق الرؤى السلوكية المتبصرة”.
وتتضمن المشروعات التي يضطلع بها هذا الفريق، مشروعاً يستهدف المساعدة على إقناع البريطانيين بتسديد الضرائب في موعدها، وآخر يرمي إلى زيادة عدد المتبرعين بالأعضاء، فضلاً عن مشروع ثالث يهدف إلى إقناع الطلاب المنتمين إلى أسرٍ ذات دخلٍ منخفض بالسعي للالتحاق بالجامعات الكبرى وذات التصنيف المتقدم في البلاد.
كما كانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قد شكّلت وحدةً مماثلةً أطلقت عليها اسم “فريق العلوم الاجتماعية والسلوكية”، وهي الوحدة التي يبدو أن عملها أُوقِفَ من جانب إدارة دونالد ترامب. وقد أثبت هذا الأسلوب المتمثل في استخدام عوامل تحفيز وحث تعمل على المستوى اللا شعوري لحمل جمهورٍ مُستهدف على تغيير سلوكياته، أنه أكثر فاعليةٍ من حملات التوعية التقليدية التي تلجأ عادةً إلى المنطق، لكي توضح للناس لماذا يتعين عليهم القيام بهذا والإحجام عن ذلك.
فقد نجح ذاك الأسلوب في التعامل مع مسائل شتى؛ بدءاً من المساعدة على حث الناس على ترشيد استهلاك الكهرباء، وصولاً إلى إقناعهم بعدم الإقدام على الانتحار.
بوسعنا هنا العودة إلى ضرب مثالٍ بمشكلة تعاني منها مدينة مومباي الهندية ثانيةً. فهناك يبلغ عدد من يلقون حتفهم يومياً بسبب الحوادث المرتبطة بالقطارات، ما بين تسعة وعشرة أشخاص في المتوسط.
وتتضمن الكثير من هذه الحوادث أشخاصاً يلجؤون إلى عبور مسارات القطارات، بهدف اختصار الطريق. وفي عام 2010، طلبت هيئة السكك الحديدية الهندية من شركة “فاينال مايل” التي تعمل في مجال التصميم السلوكي، استنباط وسيلة لتقليل عدد الوفيات هذه.
وقد اجتذبت إحدى التجارب التي أجرتها الشركة في هذا الشأن الاهتمام على وجه الخصوص، بسبب الطبيعة البشعة والصادمة التي اتسمت بها الصور التي اسْتُخْدِمَتْ فيها.
فقد اختارت “فاينال مايل” محطة وادالا الموصومة بكثرة عدد الوفيات التي تشهدها بسبب حوادث القطارات، لتضع فيها لوحاتٍ إعلانيةً كبيرةً تُظهر تعبيرات وجه رجلٍ يُفترض أن قطاراً يدهسه. وتم ترتيب هذه الصور – التي بدت حقيقيةً بشكلٍ مثيرٍ للقلق رغم أنها كانت مُرتبةً بالطبع وغير حقيقية- لتُوضع في ثلاث لوحات، ما زاد من قدر ما أثارته من شعورٍ بالرعب.
ونجحت التجارب، التي تضمنت كذلك رسم خطوط صفراء اللون على العوارض الخشبية التي تربط بين القضبان بشكلٍ عَرْضي “الفلنكات”، وذلك لمساعدة الناس على تقدير سرعة القطارات المُقبلة عليهم، في ردع هؤلاء عن العبور على مسارات هذه القطارات. وأفادت الإحصائيات بأن عدد الوفيات في هذه المحطة تراجع من 40 شخصا خلال السنة السابقة لتطبيق تلك التجربة إلى عشرة أشخاص في الفترة التي تلت تطبيقها.
ويقول بيجو دومينيك، أحد مؤسسي “فاينال مايل”: “الناس لا يغيرون سلوكهم الخاطئ رغم وعيهم بكونه كذلك، لأن البشر ليسوا كائنات عقلانية. لذا يحتاج المرء إلى نظريات جديدة لتغيير سلوكهم”.
وتتناقض فكرة كون البشر كائناتٍ لا تتصرف بعقلانية مع أسس ما يُعرف بـ”الاقتصاد الكلاسيكي” أو “الليبرالي” والذي يفترض أن كل عمليات اتخاذ القرار تستند إلى المنطق. ويشكل ذلك الافتراض الرئيسي لعلم الاقتصاد السلوكي الذي يُدمج مبادئ علم النفس وعلم الأعصاب المعرفي مع أسس علم الاقتصاد.
وفي عام 2017، فاز الخبير الاقتصادي الأمريكي وواضع “نظرية الدفعة” أو “الوكزة” (Nudge Theory)، ريتشارد ثيلر، بجائزة نوبل في الاقتصاد، بفضل عمله وجهده الرائدين في هذا المجال البحثي الجديد. ولكن هل العلوم السلوكية واعدةٌ ومبشرةٌ ولا تنطوي على أي أضرارٍ كما يبدو؟ وهل يمكن أن يتم استغلال اللا عقلانية البشرية هذه وليس التأثير فيها؟
للإجابة على هذا السؤال يمكننا إلقاء نظرة على ما قامت به شركة “أوبر” العالمية لتقديم خدمات النقل بالأجرة العام الماضي، وجعلها تقف على الجانب الخاطئ من جوانب استخدام الأساليب المُستقاة من العلوم السلوكية.
فكما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”، استخدمت الشركة “تقنيات ألعاب الفيديو، ورسوماً بيانية ‘جرافيك’، ومكافآتٍ عينيةً لدفع السائقين للعمل لساعات أطول، وبذل مجهودٍ أكبر”، وذلك بهدف تحقيق مكاسب أكبر لـ “أوبر” كما يمكن القول.
ومن بين الأساليب التي اتُبِعَتْ في هذا الشأن، تحميل الرحلة التالية على الحساب الإلكتروني الخاص بالسائق قبل أن تنتهي الرحلة التي يقوم بها بالفعل، وهو ما يغريه على مواصلة العمل دون نيل قسط من الراحة.
بجانب ذلك، تقمص بعض المديرين المحليين لـ”أوبر” شخصياتٍ نسائيةً خلال الاتصال بالسائقين على النظام الإلكتروني الخاص بالشركة، وهو ما قد يجعل هؤلاء السائقين – وغالبيتهم من الذكور – أكثر ميلاً لتقبل اقتراحاتهم. وأخيراً، فعندما كان السائقون يُقْدِمون على خطوة تسجيل الخروج من تطبيق “أوبر” في نهاية اليوم، كان التطبيق – حسبما قالت “نيويورك تايمز” – يشجعهم على مواصلة العمل، ويذكر في هذا الصدد أهدافاً اعتباطيةً وأحياناً تعسفية، من قبيل تحقيق ربحٍ يفوق ذاك الذي تحقق في اليوم السابق.
وتوضح فرانشيسكا جينو – خبيرة العلوم السلوكية والأستاذة الجامعية في كلية هافارد للأعمال – مكمن الخطأ في ما قامت به شركة “أوبر” في هذا الصدد بالقول: “يُفترض أن تُستخدم أساليب الحث والدفع، وغيرها من أساليب العلوم السلوكية التي تستهدف تغيير سلوكيات البشر، من أجل تحقيق صالح هؤلاء الذين تحاول تلك الأساليب تعديل سلوكهم”.
ويتفق دومينيك – المؤسس المُشارك لشركة “فاينال مايل” – مع هذا الرأي على ما يبدو. ففي بادئ الأمر ساعدت شركته شركات ذات علامات تجارية شهيرةٍ مثل “يونيليفر”، في تسويق منتجاتها بشكلٍ أفضل وأكثر نجاحاً، من خلال الاستفادة من الأساليب المُستقاة من العلوم السلوكية.
لكن “فاينال مايل” سرعان ما أدركت “وفي وقت ليس متأخرا” – كما يقول دومينيك – أن لهذا العلم عمقاً وأبعاد تجعله أهم من أن يُنتفع به لمجرد ترويج أنواعٍ من الصابون، مثل تلك التي تقدمها الشركة البريطانية – الهولندية سالفة الذكر.
وأضاف دومينيك بالقول: “في نهاية المطاف، هجرنا عمليات التسويق هذه، من أجل معالجة مشكلات اجتماعية مثل التغوط على قارعة الطريق، والتخلص من النفايات” في غير الأماكن المخصصة لها.
وقد استعانت الحكومة الهندية بخدمات “فاينال مايل” مرة أخرى، لتنتفع من أساليبها المعتمدة على أسس العلوم السلوكية، للحيلولة دون أن يقود السائقون سياراتهم بسرعة كبيرة على الطريق السريع الرابط بين مدينتي مومباي وبونه، وذلك بعدما كانت الشركة قد نجحت في مرة سابقة في تقليص السرعة بنسبة 50 في المئة على الطريق الوطني رقم 44 الواصل بين مدينتيْ حيدر آباد وبنغالور.
وفي هذه المرة، لجأ دومينيك وفريقه إلى رسم مجموعاتٍ من الخطوط المتوازية بيضاء اللون بعرض الطريق بين مومباي وبونه، على أن تضيق المسافات بين هذه الخطوط كلما اقترب السائق من المناطق التي يمكن أن تشهد حوادث أكثر من غيرها. وأدى ذلك إلى إيهام السائقين بأن سرعتهم في القيادة تتزايد خلال اقترابهم من تلك المناطق، ما جعلهم يلجؤون لا إرادياً إلى استخدام المكابح.
في نهاية المطاف، يؤكد دومينيك أن عوامل الحفز والدفع هذه قد تبلغ في بساطتها حد تغيير اسم شيءٍ ما لا أكثر. ويضرب مثالاً على هذا الأمر بالقول إنه عندما يُستخدم “مسمى طريق مومباي – بونه السريع، فإن ذلك يعطي الناس انطباعاً بأنه طريقٌ يُفترض عليهم القيادة فيه بسرعة عاليه”.